هناك حلقة مفقودة بين حديث المتكلم وقلب المتلقي، تلك الحلقة هي الرابط بين الأجيال لانتفاع الأبناء بنصائح الآباء، والتلاميذ بإبداعات معلميهم، وانتفاع الجماهير بما يعرضه الإعلام بكل وسائله..
غاية ما يأملُه المتحدث ليس أن يُفهم قولُه، فغالبًا ما يكون الحديث بين الناس مفهومًا والمراد معروفًا، ولكن الجزئية الغائبة كثيرًا في حديث الناس بعضهم لبعض وهي الغاية المطلوبة "امتثال المراد" فقد تجد ذلك المعلم باذلاً كل جهده لإيصال فكرةٍ ما، ولكن تكون النتيجة إهمال المتلقي للمراد وكأنه لم يُعلَّم، وقد لا يكون الإهمال وعدم الانتفاع من صفة المتلقي ولكن هناك حلقة مفقودة بين حديث المتكلم وقلب المتلقي، تلك الحلقة هي الرابط بين الأجيال لانتفاع الأبناء بنصائح الآباء، والتلاميذ بإبداعات معلميهم، وانتفاع الجماهير بما يعرضه الإعلام بكل وسائله.
وكل علم أو فنٍّ من الفنون إنما ينقل من جيل إلى جيل ويزاد عليه إبداعًا وتألّقًا إنما لوجود "حُسن التعليم والإيصال" مصحوبًا بأداة خفية من أدوات التعليم لا تراها العين، وهي "حب نفع المتعلم والمتلقي" وهذا الحب هو الرابط بين الأجيال وتطورها وتكاملها، فإن إلقاء الحديث وإيصال العلم مجردًا عن الحرص وحب نقل الفكرة ونشرها وإرادة انتفاع سامعها بها أشبه ما يكون بأداء وظيفي مجرد، أضف إليه أن للشيطان هنا حيلَهُ ودسائسَه ومكره في تصويره اقتران بقاء الشهرة والسمعة والمرتبة والمكانة بالاحتفاظ بروح المعلومة والفائدة وأدائها جسدًا فارغًا لا يملك مقومات النفع والاستمرار لدى المتلقي، وفي التنزيل الحكيم، اقترنت الرحمة وحب هداية السامع ونجاته من أوله إلى آخره، حتى حين خاطب الله أعتى البشر، أمر موسى وهارون أن يقرنا بخطابهما حب ورجاء هداية فرعون بالقول اللين: «فقولا له قولاً ليّنا لعله يتذكر أو يخشى»، ولا يتصور أن يذهب موسى وهارون بخطاب "مجردا عن الحرص وحب هداية أعدائهما" وتكون دعوتها تحصيل حاصل وهما يدركان ذلك، بل كان خطابهما ودعوتهما ممزوجة بالرحمة والحرص، وكلامهما مشمولاً بالبلاغة اللفظية والمعنوية، فإن بلاغة اللفظ وحدها لا تكفي إذا ما شعر المتلقي خلوها وفراغها من الحب والحرص على انتفاعه، وقد وصف الله القرآن بقوله «أحسن الحديث» فمهما بلغت فصاحة البشر وحسن ألفاظهم وكلامهم يبقى القرآن هو «أحسن الحديث»، وحسنه شاملٌ لصدقه وعدله وحلاوته على القلب، إذ لا يمل قارئه ولا سامعه، فكم نقرأه ونعيد ونكرر ولا نمل، وكم تقرأ الفاتحة في مسامعنا كل يوم ولا نزداد بها إلا حبّا لسماعها، وذلك لما فيها من معاني حب الله لهداية خلقه، وبلاغة حروفها وكلماتها وآياتها لإيصال صدق الدعوة والخطاب والإرشاد إلى نجاة الآخذ بها، وحتى في العهد المدني حيث واجه القرآن صنفًا آخر من المعاندين والأعداء وهم المنافقون، أمر نبينا (بالإعراض عن نفاقهم وأذيتهم والاستمرار في دعوتهم والحرص على هدايتهم ونجاتهم، «فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغًا» فمع ما يجده (من أذاهم إلا أن الله أمره بالحفاظ على بلاغة القول معهم) من باب «لعله يتذكر أو يخشى».
وأريد التنويه هنا على شيء مهم في الإعلام العربي والإسلامي اليوم، وهو ضرورة إحياء "بلاغة القول" في كل الجوانب وفي كل منصات الإعلام المختلفة، تلك البلاغة التي تشتمل على صدق الحديث وفصاحة حرفه، وإننا نلاحظ كثيرًا ممن تجده حريصًا على مخارج الحروف وإعراب الكلمات ولكن فقد روح الخطاب وصدقه وحرصه ولذلك ظهر في الإعلام كدعاية إعلامية شخصية لا جمهور لها، بينما هناك من يركز على مجاراة طبيعة لهجات الناس وملامسة مشاعرهم، لكنه يجافي ويبعد عن بلاغة القول التي تشكلت منها الشخصية العربية المسلمة، وبالتالي فقد الكثير من النفع بهذا وبذاك، فتجد الكثير والكثير من قنوات التلفزة ومنصات التواصل كتويتر والفيسبوك واليوتيوب والتوك توك، ولكن تجد أن غاية مرادها، مشاهدات وإعجابات وحسابات أخرى خاصة، وهذا لا يعني عدم النفع مطلقًا، ولكن بالإمكان أن يكون الأمر أنفع من ذلك بكثير لو صاحبه حرص وحب وبلاغة.. هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1886725]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]