إن سلوك كل من الفكرتين المنحلة والمتطرفة - حالة صراعهما الجدلي - يؤدي تلقائياً إلى التخادم الثنائي، ولكن هذا الصراع بينهما هو من جهة أخرى صراع ضد المعادل الموضوعي الثالث الذي يحاول البروز بينهما والسيطرة السليمة على المشهد..
يظهر من المقالين السابقين ("سياسة الأفكار" و"الليبرالية هي الحل") أن قدَر رؤيتنا هو مواجهة فكرتين منحرفتين: الفكرة المتطرفة والفكرة المنحلة بفكرة تشكّل المعادل الجدلي الثالث وهي فكرة "الاعتدال"، وهو ما أشار إليه خطاب خادم الحرمين الشريفين بقوله: "رسالتنا أنه لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالاً، ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحلّ يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال واستغلال يسر الدين لتحقيق أهدافه، وسنحاسب كل من يتجاوز ذلك".
وهو كلام موفَّق يوجز طبيعة كل من الفكرتين المتطرفة والمنحلة وآلياتهما وأهدافهما؛ فكل واحدة منهما تعتمد في وجودها وتشكُّلِها على الأخرى، وهذا يستلزم التخادم بينهما، وليس حتماً أن يكون دائماً تخادماً واعياً، بل من طبيعة الفكرة المنحرفة أن تستدعي انحرافاً في الجهة المضادة، فقوانين عالم الأفكار مماثل لقوانين عالم المادة، فكما أن لكل فعل ردَّ فعل مساوياً له في القوة ومضاداً له في الاتجاه، فكذلك الأمر في عالم الأفكار. وكل واحدة منهما أيضاً تستهدف تدمير الفكرة الثالثة التي تحاول أن تجد طريقها بينهما، ولا تزال الفكرة المعتدلة تدافع انحراف كل من الفكرتين المتطرفة والمنحلة محاوِلةً الوصول بالمجتمع إلى تركيب جديد مقبول بالنسبة للقيم التي يحملها الأفراد ويحقق المقاصد الحضارية التي يسعون إليها. وأيضاً كل واحدة من الفكرتين "خدّاعة"؛ فالفكرة المتطرفة تستغل العقيدة وما فيها من أصول وما تقتضيه من أحكام وواجبات لتغلو في ذلك حتى تَخرُج عن الدين، والفكرة المنحلة تستغل يسر الشريعة وسماحتها بما فيها من مباحات كثيرة مسكوت عنها لتغلو كذلك في هذا الجانب حتى تَخرُج عن الدين. ويشير الخطاب أخيراً إلى أهمية عنصر الحزم والقوة في مواجهة هاتين الفكرتين: "سنحاسب كل من يتجاوز ذلك". وهذا الجانب العملي بالغ الأهمية، فكل فكرة تسعى ليكون لها الغلبة في المشهد، فلابد أن يكون للاعتدال والوسطية من القوة والذكاء ما يمكِّنهما من السيطرة على عالم الأفكار وإلا مال المجتمع ذات اليمين وذات اليسار وانطمست هويته وتبعثرت جهوده وتفكك كيانه. وبحكم طبيعة الأفكار لا يمكن للاعتدال أن يقضي تماماً على الفكرتين المنحرفتين، فسيظل عالم الأفكار في كل مجتمع محتوياً على أنواع مختلفة ومتناقضة من الأفكار، ولم ينجُ من ذلك المجتمع المدني في عهد النبوّة حيث المسلمون وأهل الكتاب والمنافقون، ولكن المهم هو تقليم مخالب الأفكار المنحرفة وأنيابها، وتجفيف مواردها الفكرية التي تعتاش عليها، حتى يمكن للفكرة المعتدلة أن تجد لها بيئتها وتمارس نشاطها وتسير على طريقها بفاعلية نحو غايتها المرسومة.
إن من أخطر ما تتعرض له الفكرة المعتدلة في سياق صراعها مع التطرف والانحلال أن يكون نصيبها من القوة أو الذكاء دون المطلوب، فمن الخطر التهاون في القوى التي تُسند الانحراف في أيٍّ من جهتَيْه، كما أن من الخطر الاكتفاء بالأساليب التقليدية في مراقبة حِيَل الأفكار المنحرفة في الانتشار، فلابد من تناول الموضوع كما نتناول أيّ مجال معرفي له منهجه وشروطه وآلياته. لقد اكتسبْنا عبر السنوات الماضية معرفة عميقة في طرق الفكرة المتطرفة في الانتشار، فما أكثر الكتب والأبحاث والمقالات واللقاءات في تحليل خطط وأهدف وأساليب وآثار الجماعات والأحزاب المسماة بالإسلامية، ولكن آنَ لنا الآن أن نوجِّه مثل تلك العناية نحو الفكرة المنحلة. ولعلي أوجز فيما تبقى من المقال بعضاً من آليات الفكرة المنحرفة في تحقيق التخادم بينها وبين الفكرة المتطرفة، ومحاولة طمس الاعتدال ثم الانتشار.
فمنها آلية "نافِخ الكِير" (اقتباساً من الحديث النبوي الكريم عن الجليس الصالح وجليس السوء)؛ فصاحب الفكرة المنحلة يحرص على الاقتران بصاحب الفكرة المعتدلة بكل صورة ممكنة، فهذا يحقق للفكرة المنحلة هدفاً مزدوجاً؛ فهو يمنحها مشروعية في المجتمع الذي يسعى لتجديد ذاته تحت شعار "الاعتدال"، كما أنه يجعل الفكرة المنحلة تنفث من ريقها المسموم على وجه الفكرة المعتدلة في كل مرة تُوَلِّد فيها مخرجاً من مخرجاتها، ولعلي أضرب مثالاً لتوضيح ذلك بحادثة احتفال بعض السفهاء ممن يسميهم بعضهم "مشاهير السناب"، فقد تبيّن أن إحدى النساء المنظمات لهذا الحفل الماجن قد قدمتْها سابقاً بعضُ قنوات الإعلام الرسمي في أكثر من مناسبة على أنها قدوة اجتماعية مشرِّفة! فإذا تأملنا مثلاً في آثار اقتران هذه الحادثة بقرار حكومي قريب كالقرار الخاص بقصْر استعمال مكبرات الصوت في المساجد على الأذان والإقامة - وهو قرار وجيه - ظَهَرتْ لنا آليةُ نفخ الكير هنا واضحة، خصوصاً أن كثيراً من التعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي قد ألحّتْ على هذه المقارنة ليتشكّل أخيراً في ذهن القارئ المتحمس صورة مشوّهة واتهامات باطلة لهذا القرار.
ومنها آلية معاكسة للسابقة وهي "عُود الريحان" (اقتباساً من الحديث الذي شبّه المنافق بالريحانة التي ريحها طيّب وطعم مرّ)؛ فالفكرة المنحلة تحتاج أحياناً إلى غصن ريحان لتخفي نتنها، ولعلنا نراجع أيضاً سيرة المرأة السالفة الذكر لنرى أن مِن نشاطاتها التي قدمتْها إحدى قنوات الإعلام أيضاً أنها - ويا للبراءة! - عضو في جمعية للعناية بالمعوقين! وهذه الآلية هي أيضاً من آليات الفكرة المتطرفة لتلميع الذات والتغلغل في المجتمعات، فكم حرص المتأسلمون على السيطرة على الجمعيات الخيرية على اختلاف أنواعها.
إن سلوك كل من الفكرتين المنحلة والمتطرفة - حالة صراعهما الجدلي - يؤدي تلقائياً إلى التخادم الثنائي، ولكن هذا الصراع بينهما هو من جهة أخرى صراع ضد المعادل الموضوعي الثالث الذي يحاول البروز بينهما والسيطرة السليمة على المشهد، ولن يتم له ذلك إلا حينما تتوافر شروطه اللازمة، وأولها: أن نتناول عالم الأفكار تناولاً علمياً كما نتناول عالم الطبيعة والرياضيات.




http://www.alriyadh.com/1888307]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]