ينبغي للمتعلم أن يستشعر عظمة العلم، وأن يسمو به فوق الاعتبارات الضيقة، وأن لا يفسد ما حصَّله منه بجعله تابعاً لهواه يدور معه حيث دار، وأن يكون أذكى من أن ينخدع بأساليب المبتدعة والفرق الضالة التي تنتقي من العلم ما تشاء لما تشاء، وتُقْدِم على عقوق من تشاء من أولي الأمر والعلماء لمجرد اتباع الهوى..
يقتضي شرف العلم وسموُّ منزلته أن يكون مصوناً، وأن لا يحوم حوله عابثٌ ولا مُتلاعبٌ، والمتعلم أولى من يصونه ويغار عليه؛ إذ هو المدرك لأهميته العارف بقيمته، فالمتوقع منه أن يجعل العلم قائداً له في دروب حياته، لا أن يتخذه آلةً طيِّعةً يتصرف فيها كيف يشاء، ومن حسن الحظ أنه لم يزل لكل فنٍّ من فنون المعرفة حملة مخلصون له، يسهرون على تحصيله وتحريره، لكن بالتوازي معهم يوجد من يلوي ذراعه كلما سنحت له الفرصة مُحَافظةً على توجهاته وميولاته الخاصة، وللانتقائية العلمية صور كثيرة منها:
أولاً: النظر إلى العلم على أنه وسيلة إلى فرض الآراء الشخصية وتحصيل المنافع الخاصة، وهذا تضييق لدائرة منافعه العامة، وتشويه لصورته البراقة، وذلك يُنافي ما جاء به الإسلام من إعلاء منزلة العلم وإضفاء صفة الحجية عليه بحيث جعله المعيار لصحة التصرفات على اختلاف أنواعها، وجعله حَكَماً على القُوى المدركة من عقلٍ وسمعٍ وبصرٍ، (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)، فليس للمسلم أن يقفو إلا ما علمه، وإذا لم يعلم وجب عليه أن يسأل أهل العلم، وهذه المنزلة الرفيعة الممنوحة للعلم لا يمكننا أن نضعه فيها إلا إذا وقفنا عند حدوده، وكانت الآراء والمواقف جاهزة لأن تنصرف إلى حيث صرفها، وأن تتكيف على الكيفية التي أرشد إليها، وهكذا يصنع العلماء الراسخون في العلم الموفقون إلى العمل به، ومن ذلك ما شاع عند الصحابة رضوان الله عليهم من تغيير المواقف بحسب ما ينكشف لأحدهم من العلم الذي حمله الآخر، وجرى على ذلك المنهج أهل العلم والإنصاف في جميع العصور.
ثانياً: أن يأخذ منه المنتقي ما شاء ويدع ما شاء تقويةً لمنهجه وتصويباً لرأيه، وهذا هو دأب الفرق المبتدعة الضالة؛ ولهذا صدق عليهم لقب أهل الأهواء، فإنهم لو كانوا يحترمون العلم وقواعده، ويأخذون عن الراسخين فيه، ويلتزمون بما عليه أهل العلم لكانوا بمنجاة من غوائل الهوى، لكنهم لم يرفعوا رأساً لأسباب الهدى تلك، بل اقتصرت علاقتهم بالعلم على أسلوب الانتقاء والتشهِّي، فأخذوا بضعة نصوص، وبتروا دلالتها، وجعلوها آلة لتفريق الأمة والتطاول على أولياء الأمور وأهل الاستقامة، وأكبر دليل على استهانة المبتدعة بالعلم أن أصول البدع نشأت في عهد الصحابة، فلم يأبه المبتدعة بما عند الصحابة من العلم المأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل تعلقوا ببعض نصوص الوعيد وإعراضهم عن غيرها، حتى آل بهم الأمر إلى تكفير كبراء الصحابة رضوان الله عليهم، وما كفروهم إلا من خلال استنباطات ساذجة كانت من انتقائهم السقيم، وأعرضوا عن النصوص القرآنية الصريحة في تزكيتهم، كما أعرضوا عن الأحاديث الصحيحة الدالة على فضائلهم، بل في بعضها بشارة بالجنة لبعض من كفروهم بعينه، وظل الانتقاء العلمي طابعاً لا يغيب عن الفرق المبتدعة إلى يومنا هذا، فلن تجد لشيءٍ منها احتجاجاً علمياً إلا وجدته ينتقي ما يوافق هواه، لا لأن قواعد العلم تُوجب أو تُسوِّغُ انتقاءَه، بل لأنه الذي يخدم مأربه، ويؤيد شبهته.
ثالثاً: محاولة احتكار المعرفة لمن هو في صفِّ المنتقي، ورمي مخالفه بأوصاف التجهيل والتسفيه، ومحاولة إثبات ذلك بطرقٍ علمية، وهذا من الانتقائية المقيتة؛ فإن الإنصاف يقتضي أن يعترف لكُلِّ ذي معرفةٍ بما عنده من المعارف، ومن كان همه صيانة العلم وبقاؤه محترماً لم يجرؤ على الاستهانة بشخص حامله؛ لمجرد أنهما مختلفان، كما أنه لا يُثني على الجاهل لأنهما متفقان، وتقزيم المخالف ورفع الموافق بلا سببٍ علميٍّ مقنعٍ أسلوبٌ فاسدٌ انتهجه أحبار أهل الكتاب وذمهم الله تعالى عليه فقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً)، ثم تبعهم عليه المبتدعة، فكانت الفرق الضالة تلمز علماء السنة وحملة الأثر بالجهل وتنعتهم بالسطحية وضحالة الفهم، ولكن أحق الله الحق وأزهق الباطل، فأبقى علم أولئك منتشراً مُتناقلاً، وجعل لهم لسان صدقٍ فيمن بعدهم، وظلت أوصاف الابتداع والضلال لاصقة بخصومهم المبتدعة.
وأخيراً: ينبغي للمتعلم أن يستشعر عظمة العلم، وأن يسمو به فوق الاعتبارات الضيقة، وأن لا يفسد ما حصَّله منه بجعله تابعاً لهواه يدور معه حيث دار، وأن يكون أذكى من أن ينخدع بأساليب المبتدعة والفرق الضالة التي تنتقي من العلم ما تشاء لما تشاء، وتُقْدِم على عقوق من تشاء من أولي الأمر والعلماء لمجرد اتباع الهوى.
http://www.alriyadh.com/1891334]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]