في ذاكرة الأَدب العربي، منذ جاهليَّته السحيقة حتى مطالع القرن العشرين، ظاهرة "المعلَّقات الشعرية" التي لم تقِف عند السبع المعروفة، بل بقيَت تتناسل مطوَّلاتٍ شعرية غالبًا ما يتباهى أَصحابُها (!؟) بطُول قصائدهم مئاتٍ متراكمةَ الأَبيات فوق بعضها بعضًا في شكل عمودي روتيني بَليد يَندر أَن يخرج منها عدد ضئيل من الأَبيات فيها ومضة أَو فلذة شعرية.
وإِذا براعة ذاك الزمن كانت بالأَلفيَّات (أَلفيَّة ابن معطي أَو أَلفيَّة ابن مالك) أَو بالمئَويَّات وما قاربها (لاميَّة ابن الوردي)، فذاك من سحيق زمان كان فيه الزمن بطيئًا يتراوح بين هزْج على هودج، أَو رجَز في قيلولة، وإِذا تَسارَعَ فوقْعٌ على خبَب حصان.
أَفهم أَن يكون الشعر القديمُ بطيئًا وفْق إِيقاع العصر، أَو تَنافُسيًا كما في سوق عكاظ، وإِذا تحرَّك أَكثر فمدائحُ في بلاط خليفة.
وأَفهم أَن تتمطَّى هذه الظاهرة متمدِّدة حتى غروب العصر العباسي والدُخول في عصر انحطاطٍ كثُرت فيه الأُلعُبانيات النظْمية (ولا أَقول الشعرية)، فتُصبح "براعة" القصيدة مجرَّد أُرجوزات يتبارى نظَّاموها بأَبيات ذات نُقَط وأُخرى بدون نِقاط، أَو بأَبيات تُقرأُ طردًا وعكسًا، وما شابه من "ارتكابات" بحقِّ الشِعر ليست سوى توافه كلام في جمهور لم يكن يرى سواها زمانئذٍ ولا مكانئذٍ.
لكنني لا أَفهم أَن تستمرَّ هذه الظاهرة حتى اليوم، والعصرُ بات في إِيقاع آخر. فمن الكتابة بالغزَّارة إِلى قلم الرصاص إِلى قلَم الحبر إِلى الآلة الكاتبة إِلى الكومبيوتر، تغيَّر العصر كلِّيًّا ولم يعُد جائزًا إِيقاعٌ بَطيْءٌ في القصائد مطوَّلاتٍ ومعلَّقاتٍ ومئَوياتٍ وأَلْفيات. والصبيَّة التي كانت تُمضي ساعاتٍ مطَّاطةً تُصغي إِلى عاشقها يُدلي تحت شبَّاكها "تْروبادُورِيًّا" بقصيدة طويلة، باتت اليوم تَقْرأُ رسالتَه ببضع ثوانٍ في بريدها الإِلكتروني أَو على شاشة هاتفها المحمول. وما كان من مسرحيات أَحمد شوقي ذات آلاف الأَبيات، بات اليوم مشاهدَ تلڤزيونية وميضة. من هنا غيابُ المسرح الشعري البَطيْء وانزوَاؤُهُ بين رفوف الكتُب المستريحة في إِحدى زوايا الذاكرة.
إِيقاع العصر اليوم: الإِيجاز الوميض، وقُدرة الشاعر: تأَقْلُمُهُ مع هذا الإِيجاز. الصورةُ دائمًا أَوسعُ من التعبير، وعبقرية الهايكو في الشعر الياباني أَنه يختصر أَوسعَ صورة بضئيل تعبير. هنا أَهمية الرباعيات والثلاثيات والثنائيات في الشعر العربي. وهنا عبقرية الشعراء في قصيدة البيتين يَشعَّان بمضمونٍ كان يستلزم لدى أَسلافهم أَبياتًا مطَّاطة للتعبير عنه.
تكنولوجيا العصرِ الوميضةُ ليست للعلوم فقط بل للأَدب أَيضًا. وإِلَّا يتخلَّف الأَدب عن العصر ويولد ميتًا أَيًّا يكُن نوعه.
كيف؟
أَشرح في المقال التالي: الخميس المقبل.




http://www.alriyadh.com/1893877]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]