كتبتُ في المقال السابق ("الرياض" - الخميس الماضي) أَنَّ "الصورة دائمًا أَوسعُ من التعبير"، مواءَمةً رأْيَ النِفَّريّ في كتاب "المواقف والمخاطبات" أَنْ "كلَّما اتَّسَعَت الرؤْيةُ ضاقت العبارة".
إِذا الصورةُ تتَّسع في النثر السردي، وَوَجَبَ ضبْطُها كي لا يقع التعبير في الثرثرة (والنثْر محلولٌ رخْوٌ يُغري بالثرثرة أَو يَجنَح إِليها) فالأَوْلى بالشعر (وهو أَصلًا خلاصة الخلاصة وجوهر الجوهر) أَن يوجِزَ ويختَصِر ويُكَبْسِلَ (من كبسولة) كلَّ صورة يَجْهَد الشاعر في التعبير عنها. وما يودُّ قولَه في عشرة أَبيات فَلْيَقُلْه في خمسةٍ أَو أَقلّ، لأَن التكثيف يجعل الصورة أَشرَقَ نَصاعةً وأَوجزَ زخمًا في التعبير. فالبلاغة جديرةٌ بالشعر قبل النثر.
من هنا ما نحا إِليه الشعراءُ الـمُحْدَثُون في قصائد التفعيلة (وهي في ذاتها فخٌّ آخَرُ للإِطالة الثرثارة إِن لم يعرف الشاعر كيف يضبُطُها فَيُكثِّف) بالعودة إِلى سطر جديد وَفْق تَنَفُّس الجُملة لا وَفْقَ مقتضيات التفعيلة، فيكون للبياض الصامت صوتٌ يُكْمل الكلمات المصَوِّتة. إِنه البياض الذي يُكْمِلُ القصيدة فلا تنتهي حيث تنتهي الكلمات بل يتمِّمُ البياض ما لم تقُلْه الكلمات، كأَنما البياض الصامت صدًى لصوت كلماتٍ انْتَثَرَت على الصفحة. هنا يصبح بياضُ الصفحة للشاعر كما القماشةُ البيضاء لرسَّام يهندس حرًّا بياضَها بما تملأُهُ ريشتُه، فيتنقَّل الشاعر على بياض الصفحة بما تُهندسُهُ كلماته على المساحة البيضاء. وكما الرسام يعبِّر بأَقل خطوط عن أَوسع صورة (فلا تكون لوحتُه ثرثارة) كذا الشاعرُ، تلميحًا لا تصريحًا، بأَبياتٍ أَقلّ وتفعيلات أَخَفّ، يعبِّر عن أَوسع معنى. هكذا يُحوِّل الشاعر صحراءَ الصفحة إِلى مُدُن تتلَأْلَأُ بنور الحياة.
وإِذا تكنولوجيا العصر حوَّلَت كُبْرَيات الآلات القديمة إِلى آلات صغيرة في حجم الكف (هاتف محمول، آلة حساب إِلكترونية،...) فالأَجدر بالشاعر، وهو دومًا طليعةُ عصره، أَن يتجنَّب في قصيدته تطويلات العصور القديمة، كما الشعر القصصي أَو الحكمي وهو نَظْمٌ طويل يطغى على اللمعات الشعرية بسردٍ يلاحق خيوط القصة أَو أَقوالِ مأْلوفة ينْظُمها الشاعر موزونةً مقفَّاة. فثقافة الشعر وجهٌ من ثقافة المجتمع والتقاليد حين القصائد تنقل تراثًا شعبيًّا كان جُزءًا من أَدب العصر.
من جواهر التكثيف والإِيجاز سطوعُ كلمتَين متجاورتَين جماليًّا ليسَ مأْلوفًا تزاوُجُهُما معًا، فتُشَرقط الجملةُ وضَّاءةً سنيَّة، كما عند تزاوُج محسوسٍ ولامحسوس في عبارة واحدة، أَو كما يولد اشتقاقٌ جديدٌ من اشتقاق مأْلوف.
في النصوص المقبلة -كي لا يبقى كلامي في دائرة النظريّ التجريديّ- سأْعطي نماذجَ شعريةً عن التجاوُر الجمالي واللامحسوس والاشتقاقات، فأُطبِّق النظريةَ بالشواهد الشعرية المناسبة.




http://www.alriyadh.com/1895193]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]