عندما جاء الرئيس الفرنسي في زيارة رسمية إلى لبنان، طلب أن يكون من ضمن برنامج زيارته الالتقاء بالفنانة فيروز، ولم تذهب فيروز لمقابلته في المقر المعد له أثناء الزيارة أو في القصر الرئاسي؛ لكنها استقبلته في منزلها دون ضجيج أو تصريحات إعلامية، وكان هذا التصرف مقصوداً واضحاً؛ لتكون الزيارة الخاصة في حجمها الطبيعي ولتكون فيروز على مساحة واحدة مع الجميع، مثلما هي دائماً، مع كافة الأطياف في بلادها؛ فلم تتعود هذه الفنانة الكبيرة الذهاب لا أهل الحكم أو السياسة أو وجوه المجتمع، أو التحاور معهم أياً كانت توجهاتهم، كان همها الدائم لبنان وسلامته وأمنه ورفاهيته؛ حتى أن حبها لبلدها جعلها لا تغيب عن أرضه وسمائه، في كافة الظروف التي مرّ بها لبنان، وجعلته لا يخرج من أزمة حتى يدخل في أزمة؛ ظروف جعلت كل قادر من المواطنين اللبنانيين يغادر البلد بحثاً عن الأمن والعمل والرفاهية، ظروف تسببت في شل الحركة الاقتصادية والعلمية والثقافية؛ وكانت السيدة فيروز أثناء كافة الظروف تلجأ إلى الصمت وتبتعد عن الأضواء، حتى لا تسجل عليها أي نقطة أو ملاحظة، قد تفسر تفسيراً مغلوطاً. كنا وما زلنا نعرف أن هذه السيدة العظيمة صوت الإنسان، أياً كانت بلاده أو لغته أو عرقه أو معتقده، فمثلما غنت للقدس والمسيح غنت لمكة، ومثلما غنت للشجر غنت للحب والمحبين، ومثلما غنت باللهجة المحكية اللبنانية غنت باللغة العربية الفصحى، لتكون على مسافة واحدة مع كافة الأذواق؛ ومثلما خاضت الغناء الفردي، خاضت الغناء الجماعي المسرحي، وكانت طلاتها كلها قمة في الأناقة والرقة، لا نبرة زاعقة ولا كلام مبتذل أو فارغ، من يكتبون ويلحنون لفيروز كانوا دائماً على مستوى عال من الإحساس والثقافة والخبرة والموهبة، ورغم ارتباطها بالرحابنة إلا أنها لم ترهن عطاءها لهم فغنت وأخذت ألحاناً من عديد من الملحنين والشعراء العرب. علاقتي بهذه الفنانة قديمة، كنت أشتري أسطواناتها من كل مكان، وأذهب إلى جدة لزيارة محل في شارع الملك عبدالعزيز تخصص في بيع الأسطوانات ثم أصبح ينقل محتوى أكثر من أسطوانة في شريط كاسيت؛ كنت أسجل أغانيها ومسرحياتها الغنائية أولاً بأول، وأجمع ما يكتب عنها في الصحف والمجلات والكتب؛ صوت لم يكن ليغيب عني في أوقاته؛ نعم ففيروز بالنسبة لي لا تسمع إلا في أوقات خاصة ومع مزاج خاص وحالة إنسانية خاصة؛ من يستمع إليها يجب إن يكون مهيئاً لذلك؛ هذا صوت جمع فأوعى، وليس من هذه الأصوات التي تعرض علينا الآن؛ أصوات للأسف حتى مساحاتها مغشوشة؛ استغلت التقنية والمحسنات أسوأ استغلال؛ لذلك ستجد أن كل صوت من هذه العينة مثل المعلبات، له تاريخ صلاحية؛ صوت فيروز علامة صالحة لكل زمان ومكان، ولكافة الأعمار والأذواق.
http://www.alriyadh.com/1896626]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]