من المعايير التي تنكشف بها دعاوى حب الخير للناس المزيفة أن يمرق الإنسانُ من الجماعةِ ويشقَّ عصا الطاعة، ويتحدى أنظمة الدولة، ثم يتظاهر بمظهر المحب للخير الحريص على منفعة الناس، ويهيم في أودية الجريمة ثم يُسمِّي الإفساد الذي يسعى فيه إصلاحاً أو نحو ذلك من الأسماء البراقةِ، والواقع أن مساعيَه محاولة لنشر الفوضى وتعميم الانفلات، والفوضى لا تنتج عنها المصالح، ولا تنفك عنها المفاسد..
المخلوقات كلها متقلبةٌ في نعمة خالقها، لم يُعدم فردٌ منها أنواعاً من النعم يتمتع بها، وللإنسان نصيب وافر من النعمة، وكيف لا وقد سُخِّر له البر والبحر وكثيرٌ من مخلوقاتهما، وأضفيت عليه الكرامة التي بموجبها صين دمه وماله، ومُنعت الاستهانة به، ولو بعد موته، وفي هذا تمييزٌ ظاهرٌ وتفضيلٌ باهرٌ قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)، ومع ما سيق إلى الإنسان من النعم الظاهرة والباطنة والمزايا الجليلة إلا أنه يختلف مستوى الناس في إدراكها والتنبه لها والاعتراف بها، وينتج عن ذلك تفاوتهم في شكرها؛ لأن الشكر وليد الاعتراف، ولي مع تقدير النعم وقفات:
أولاً: ينسى أو يتناسى بعض الناس أنه في بحبوحة النعم بمجرد أن تعرض له بعض الصعوبات، وهذه غفلةٌ عظيمةٌ منشؤها توهم إمكانية خلو هذه الدنيا من الكدر الذي طُبعت عليه، وكأن الذي غمِط النعم المتكاثرة عليه بمجرد فقد غيرها يحلم بجنةٍ دنيويةٍ، فإن كان كذلك فقد أبعد النجعة، فالدار التي لا وَصَب فيها ولا تعب ولا يخاف ولا يحزن قاطنوها هي الجنة، وفيها السعادة المطلقة، ولما أسكنها الله تعالى أبانا آدم عليه السلام أعلمه بما فيها من الراحة، فقال تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)، وفي هذا دليلٌ على أن هذه الراحة لا يُمكن أن تتوفر خارجها هكذا بدون قيد، أما الأرض فقد يشبع فيها من يشبع، ويستغني فيها من يستغني، لكن لا تخلو من كبَدٍ يلاقى فيها، فالعاقل من يتحمل هذا الكبَد، ويتجلد له ولو تفاقم عليه، وينظر دائماً إلى أنه ضئيلٌ جداً بالمقارنة مع ما رزقه من نعمٍ سابقةٍ وحاليَّةٍ، وما يستشرف تحصيله من النعم في المستقبل.
ثانياً: من فوائد تقدير النعمة وعدم نسيانها باكتناف الصعوبات للإنسان أن مقدِّر النعم يتمالك نفسه، ويستشرف مستقبله، ولا يقنط من حدوث الخير له، كما لا يضعف عن اتخاذ الأسباب المشروعة لكشف ما نابه من المشكلات، وفي مقدمة الأسباب أن يشكر اللهَ تعالى على ما أسدى إليه من نعمه، ويصبر على ما ابتلاه به من الضرِّ، ويتضرع إلى ربه راجياً منه رفعَه مازجاً شكر ما معه بطلب ما ينقصه، وهذه سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهذا زكريا عليه السلام لما بلغ من الكبر عتيّاً، ولم يُرزق الذرية لم يجعل ذلك عائقاً له عن دعاء ربه والاعتراف بفضله وما عوده إياه من قبول دعائه، بل قال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)، وبالمقابل من الناس من لو تأخر إنجابه بضع سنوات لخارت معنوياته، ولم ير من الـمُجدي أن يُناجي ربه معترفاً بنعمه مستزيداً منها.
ثالثاً: من الأخطاء الشائعة فيما يتعلق بتقدير النعم والخطيرة جداً عدم اعتداد كثيرٍ من الناس إلا بالنعمة الخاصة التي لم يشارَك في عينها، ولو شورك في جنسها، وذلك كمالٍ رُزقه وولدٍ عُضدَ به، وصحةٍ مُتِّع بها، وغير ذلك، فيستشعر أنه مُنعمٌ عليه بذلك والأمر كذلك، لكن الإشكال أن لا يتعدى نظره هذا، فلا يستشعر النعمة العامة كخصبٍ يعمُّ الأرض، وعافيةٍ تُخيِّم على الناس، واستقرارٍ وأمنٍ تنعم بهما البلاد وحاكمٍ تنتظم بسلطته شؤون البلاد، ويأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم بواسطة أنظمته، ويزع الله به ما لا يزع بدونه كما ورد في الأثر: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ولأهمية نعمة السلطان وجب على الأمة اتخاذه وطاعته وشدّد الوعيد في الإخلال ببيعته كما في حديث: (مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِى عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) رواه مسلم، فمخطئ من يتنعم بهذه النعم ولا يُلقى لها بالاً، بل يتنعّم فيها وكأنها لما استوى فيها هو وغيره لم ير أنها نعمة، وهذا غلط فادح، فهذه النعم وأمثالها من أعظم وأنفع النعم، بل إنما يكمل الانتفاع بباقي النعم بواسطة هذه؛ ولأجل عظمة النعم العامة وقع التذكير بها في القرآن الكريم كقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، فذكرهم بنعمة الأمان.




http://www.alriyadh.com/1901145]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]