في أواخر الستينات الميلادية، كنت أصعد السلالم الخشبية، التي تؤدي إلى الدور الذي خصصته "مطابع المرقب" لمكاتب تحرير الصحف التي تطبع فيها، ومنها جريدة "الرياض" ومجلة اليمامة؛ حالما وصلت إلى ذلك الدور توجهت إلى مكتب "محمد أحمد الشدي"، وكان في ذلك الوقت رئيسا لمجلة اليمامة، وكانت علاقتي معه قد بدأت من المدينة المنورة عندما كنت طالبا في مدرسة "طيبة الثانوية"، حيث كنت أزود المجلة في تلك الأيام ببعض التقارير الصحفية، وكان حول الشدي في غرفتين أو ثلاث من ذلك الدور مجموعة من الصحافيين وهواة الصحافة، شعارهم كما وضح لي "الصحافة للصحافة"، فقد كان القرش شحيحا والأجور على القد، حتى أن مكافاة أكبر متعاون كانت لا تزيد على الست مئة ريال في الشهر! كان في "مجلة اليمامة" آنذاك، عبدالله السليمان، علوي الصافي، عبدالرحيم نصار، على إبراهيم، عيد سرياني، علي العفيصان، إسماعيل كتكت وغيرهم، وكنت أصغرهم سنا وأقلهم خبرة.
كان "محمد الشدي" يدير وبكثير من الحنكة والهدوء وعفة القول، الفريق الذي يعمل أفراده نهارا في وظائف حكومية وليلا في المجلة؛ ولا أذكر وأنا أحضر إلى المجلة يوميا - رغم أنني لم أكن أتلقى أجرا منتظما - أنه رفع صوته على محرر؛ فقد كان يعتبر الجميع إخوة أو زملاء كبيرهم مثل صغيرهم، ومن شدة عطفه وحرصه على العاملين معه، كان في ظل محدودية وسائل الاتصال يذهب إلى بيت من يتغيب عن المجلة، لمعرفة ظروفه والاطمئنان عليه!
وكان العمل في المجلة يوميا من بعد المغرب حتى الهزيع الأخير من الليل، دون تذمر أو شكوى من الجميع، محمد الشدي في تلك الأيام كان يعمل طوال الوقت، فقد كان يستغل نهاره بزيارة المسؤولين وزوار المملكة من الكتاب والصحافيين العرب والأجانب، وكان أغلبنا يُدعون لولائم يقيمها الشدي لهؤلاء ويدعو لها العديد من الكتاب والصحافيين إضافة إلى هيئة تحرير المجلة، وقد تعرفت من خلال تلك المناسبات على صحافيين وكتاب كنت أتابعهم، منهم: سليم اللوزي وياسر هواري وهداية سلطان السالم وجلال كوشك، وبفضل هذا الرجل أجريت حوارات عديدة مع كتاب وفنانين زاروا الرياض، وأعطيت زاوية أسبوعية كنت أنثر من خلالها خواطري في الصحافة والفن والأدب.
وكنت في العام الذي تزوجت فيه أسكن في شارع فلكلوري اسمه "شارع الغنم" وعندما عرف "محمد أحمد الشدي" بزواجي سألني إن كانت الغرفة التي أسكن فيها مهيأة لعروس، فقلت له ببراءة: "ليس في هذه الغرفة إلا سرير من حديد، ومروحة سقف وبساط!" ولأنه كما يقولون يعرف البئر وغطاه، فقد توسط لي عند "إبراهيم الناصر" الروائي المعروف، وكان يعمل مديرا إداريا لفرع أحد البنوك، لكي أحصل على خمسة آلاف ريال سلفة، وبهذه السلفة أتينا بمكيف وسرير وأغطية وأدوات مطبخ وطشت لغسل الملابس، ولم نخرج من تلك الغرفة، التي كانت تتلقى غبار "شارع الغنم" بكرم لا تحسد عليه إلى شقة جديدة إلا بعد شهور، عندما تحسنت أوضاعي المادية.
رحم الله "محمد أحمد الشدي" وغفر له وجبر بخاطر أهله ومحبيه، فقد جاء إلى بلاط صاحبة الجلالة "الصحافة"، وخرج منها كما دخلها، هادئاً طيباً عطوفاً.




http://www.alriyadh.com/1902625]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]