نعم تحققت تلكم الأمنية التي سردها الأديب الروسي العظيم "فيودور دوستويفسكي"، إذ شهدتها بنفسي حينما تسمّرت لساعات طويلة يوم أمس متأملاً تمثاله أمام المكتبة الوطنية الروسية في العاصمة موسكو.
يقول في روايته الخالدة "الأخوة كارامازوف" على لسان إحدى شخصياته الممتلئة بالتفاصيل والمثقلة بالعواطف: "وحين يهيلون على قبري التراب، انثر فوقه فتات الخبز، فتتهافت عليه العصافير، فأسمع صوتها، ولا أشعر أني وحيد"، وهذا ما تحقق بالفعل ليس فوق قبر "دوستويفسكي" في "سانت بطرسبرغ"، بل على تمثاله الرائع وسط موسكو، وبالقرب من ساحتها الحمراء، إذ شَهدتُ الطيور تتهادى فوقه، وتحط على ركبتيه.
تقف وتتأمل تفاصيل عبقري الأدب الروسي، تلاحظ تأثير سيرة مخضبة بالأحزان والآلام، منذ تخرجه مهندساً، ثم تحوله إلى الترجمة والأدب، وتعرضه لشظف العيش ومعاناة الفقر، فالوقوع في ظلمات التشاؤم، والغرق في بحار الحرية، كادت تفقده حياته بعد إلقاء القبض عليه بسبب انضمامه لرابطة "بيتراشيفسكي" المعارضة للاستبداد القيصري، غير أنه نجا في اللحظة الأخيرة من الإعدام! بأن خفف الحكم للنفي إلى سيبيريا، والسجن خمس عشرة سنة! منها سنوات في الأعمال الشاقة والمرض والوحدة.
عاد إلى "سانت بطرسبرغ" كئيباً محطماً، لكنه لم يركن لذلك، فانطق يؤلف روايات بوليسية ذات طابع فلسفي ونفساني، ليذيع صيته ككاتب ذي قدرة مثيرة على سبر أغوار نفسيات أبطاله، كما فعل في رواياته "الجريمة والعقاب"، و"الأخوة كارامازوف"، و"الأبله"، و"الشياطين"، و"المقامر"، وغيرها.
تقلبات حياة "دوستويفسكي" تركت بصمات واضحة على إبداعاته الضخمة، واستطاع استغلال تلكم التراكمات والتعرجات، ليفصح عن دواخل النفس الإنسانية بتجرد وصدق، وليؤكد أن الجمال "ينقذ العالم" على حد قوله، وأن القبح والفقر اللذان عاشاهما كانا حافزه نجو التغيير.
بعد شهرين -نوفمبر 2021م- تحل الذكرى المئتين لولادة رائد الأدب الروسي، الذي رفع مستوى فن الرواية، لتكون ساحة للفلسفة، وسبر أغوار القلوب والأرواح، وتعقد العديد من الفعاليات الأدبية والعروض الفنية في عموم روسيا، ومنها مسرحية درامية مقتبسة من مذكرات زوجته الثانية "آنا سنيتكينا"، التي تستعرض إبداعه الذي لا يمكن فصله عن حياته الشخصية، ناهيك عن إطلاق منظمة "اليونسكو" اسمه على العام الجاري، وتنظيم برامج وفعاليات ليس في روسيا فقط، بل في مختلف أنحاء العالم لاستذكار الرحلة الطويلة لكاتب أثر ليس على الكتابة الروائية فقط، بل حتى المدراس الفلسفية، كالوجودية مثلاً.
خلود روائع "دوستويفسكي" يجعلها قابلة للقراءة والتفكر مرة بعد أخرى، والأجمل محاولة الوقوف على بعض مواقع أحداثها المفترضة في روسيا، وهذا ما فعلته، مما قربني أكثر من سياقها، وإدراك ظروفها، لتكون القراءة المقبلة أسهل فهماً وأعمق أثراً.
سلاماً منا على المبدع الذي كشف لنا الستار عما تُكنه أنفسنا، وأفصح لنا أننا نحن البشر أعقد مما نظن ونأمل.
http://www.alriyadh.com/1904169]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]