هل يَحتاج شكلُ النص دفاعًا عنه؟
أَلَيس النثر توأَمَ الشعرِ الجميلَ، وما يقال عن الشعر يقال عنه أَيضًا؟
أَلَيس هذان التوأَمان وَليدَي الأَدب العالي يرفُدُهما معًا بالأَصالةٍ، وتبقى مسؤُولية الـمُقارِبِ أَن يكون -وقد لا يكون- على مستوى الأَمانة؟
ولا مرّةً كان الإِشكال في جوهر النثر أَو في عمق الشعر، بل في مَن يقاربُهما فيقصِّر عنهما ويدَّعي، أَو يُجلّي فيهما فيُضيف.
علامةُ هذين التوأَمَين أَنهما متشابِها الجذور، شريكانِ في كل صفة على مستوى الجذع، حتى إِذا تفرَّعا أَغصانًا وأَفنانًا، استقلَّا شخصيةً، وطابَعًا، وأُصولًا، ونهجَ حياة.
قد يستقلاَّن شكلًا، من دون أَن يُحدِّدَ الشكل نوعهما. فالنثر يبقى نثرًا كيفما تَناثَرَ على المساحة البيضاء، والشعر يظلُّ شعرًا سواءٌ اتّخذ الشكل العمودي الأُفُقي (صدر وعجُز) أَو انهمل عموديًّا بتفعيلة دائرية، أَو انْتثر كيفما اتفَق حُرَّ التمدُّدِ على الصفحة.
مساحة الورقة البيضاء أَمام القلم، شاعرًا كان حاملُه أَو ناثرًا، شبيهةٌ بمساحة القماشة البيضاء أَمام ريشة الرسام: يبدأُ من حيثما يشاء، يتصرَّف بالمساحة كيفما يشاء، يختُم اللوحة حينما يشاء. فلا قانون جامدًا يفرض عليه أَن يبدأَ على البياض من نقطةٍ ما، وأَن ينتهي في نقطة معينة. المهم النتيجة: المهم اللوحة الجاهزة. وهكذا الشاعر أَمام الورقة البيضاء: المهم هو النص الذي ملأَ البياض لا كيف وزَّعه صاحبه على بياض الصفحة. هويةُ النص لا يحدِّدها الشكل بل المضمون.
أُعطي أَمثلة:
آخُذُ مقطعًا نثريًا وأَكتُبُهُ، كما العادة، أُفُقيًّا هكذا: "الوقْتُ حان. كلُّ وقتٍ آخَرَ فلْينتظِرْ. إِنه وقتُ الشِّعر. العروسُ التي لا بَدْء إِلَّا بها، فَلْتَتَحنَّ، وَلْتَتَزَيَّ، وَلْتَغْوَ. ها فجرُنا دَنا، وستنكسرُ قشْرةُ الليل". يبقى هذا المقطع نثريًا.
ثم أُعيد كتابتَه عموديًّا بتشكيلٍ فَنْتَزِيٍّ هكذا:
الوقْتُ حان.
كلُّ وقتٍ آخَرَ فلْينتظِرْ
إِنه وقتُ الشعر.
العروسُ التي لا بَدْء إِلَّا بها
فَلْتَتَحنَّ
ولْتَتَزَيَّ
وَلْتَغْوَ
ها فجرُنا دَنا
وستنكسرُ قشْرةُ الليل.
فيبقى، كذلك، نصًا نثريًا. يبقى من النثر ولا يُصبح شِعرًا.
آخُذُ بيتًا شِعريًا وأَكتُبُه كلاسيكيًا تقليديًا أُفُقيًّا هكذا:
هُبَّ من نومِكَ الْهَنِيِّ وَلُوعا حِبَّني حِبَّني... وَزِدْ بِي وُلُوعا
أَو أُفُقيًّا هكذا:
هُبَّ من نومِكَ الْهَنِيِّ وَلُوعا
حِبَّني حِبَّني... وَزِدْ بِي وُلُوعا
أَو مشطورًا هكذا:
هُبَّ من نومِكَ الْهَنِيِّ وَلُوعا
حِبَّني حِبَّني... وَزِدْ بِي وُلُوعا
ويبقى بيتًا شِعريًا.
وإِذا كتبتُه عموديًّا بتشكيلٍ فنتَزِيٍّ:
هُبَّ من نومِكَ الْهَنِيِّ
وَلُوعا
حِبَّني
حِبَّني...
وَزِدْ بِي وُلُوعا
يبقى كذلك بيتًا شِعريًا عاديًّا، ولا يصبح (كما يسَمّى دُرْجةً) "نثرًا شعريًّا" ولا "شعرًا منثورًا" ولا "قصيدة نثْر" ولا شِعرًا "حديثًا".
يبقى من الشعر.
إِذًا: الشكلُ، كيفما كُتِب، لا يعطي هوية النص.
تقْنيةُ النَص، مضمونًا، هي التي تُحدِّد هويّته شعرًا أَو نثرًا. فلكلٍّ من هذين "التوأَمَين" الجميلَين تقْنيته الخاصة التي يعرفُها قارئُ الشعرِ المتنوّرُ المتمرِّسُ العارفُ، وهنا يتساوى القارئ العارف مع الناقد العارف. وإِذا كان الناثرُ غيرَ مُلِمٍّ بتقْنية الشعر (وليس بالضرورة أَن يكون كذلك) فالمفترض فيه أَن يُلِمَّ بتقْنية التوأَمين معًا إِنما هو الشاعر الشاعر، سواء كان هو "كاتبًا" شِعرَه أَو "قارئًا" شِعر سواه.
وبين الشاعر "كاتبًا" والشاعر "ناقدًا"، فُسحةٌ جوهريَّةٌ أُفَصِّلُها في المقال التالي (الخميس المقْبل).




http://www.alriyadh.com/1929331]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]