لم يكن هناك أجمل من تعريف أفلاطون للمدينة وارتباطها بأهلها حينما قال: "المدينة في جوهرها ليست إلا تجسيدًا لوجود وثقافة مجتمعها".. وكأنه هنا يشير إلى أهمية سكّانها في تحديد هويتها ومعالمها، بل جودة وقيمة الحياة فيها.
تراءى لي ذلك وأنا بين جنبات مدينة الحريق تلك الفاتنة التي تأخذ مكاناً استراتيجياً بين انحناءات جبل طويق وأشجار وادي نعام.. تلك التي اكتسبت رقيها من القيمة العالية لأهلها وما كانوا عليه حاضراً وماضياً.. وليس ذلك فقط بل هي ساحرة بهدوئها، فاتنة بنخيلها الخضراء، جاذبة بعبق ما تشتهر به من حمضيات، كل من يزورها يقع في حبها.. وأنا وقعت في ذلك الحب؟!
قيمة التاريخ فيها لا تتعارض مع حاضرها الجميل.. آمنت بذلك وأنا على بعد خطوات من المكان الذي وقف فيه شاعر الجزيرة العربية الكبير وابن الحريق محسن الهزاني يناجي ربه يسأله الغيث في القصيدة التي سُميت بـ"الاستغاثة" وكتب عنها أعلام ومفكرون عرب.. وتمنيت حينها أن استرجعها وأتخيلها حاضرة من ذلك الفارس الشاعر الذي استهل قصيدته بمناجاة عظيمة قال فيها:
دع لذيذ الكرى وانتبه ثم صلْ
واستقم في الدجى وابتهل ثم قلْ
يا مجيب الدعا يا عظيم الجلال
يا لطيفٌ بنا دائمٌ لم يزلْ
هذه المدينة الحالمة.. اتخذت مكانا رائعاً من جبل طويق وعلى موقع لافت جميل منه، وكأنها اختارت مكانها بدقة متناهية بمناظر أخاذة لا تجدها إلا في بعض قليل من مدن نجد.. في جبل تعتقد أنه يحتضنك.. يعانقك.. يرحب بك من صفاء أجوائه.. بصدر مفتوح بين الهواء العليل والشمس المشرقة.. حاضرة فاعلة مع كل إشراقة.. من خلال أبنائها الذين حملوا ألقها فحق لهم أن يكونوا جزءًا من تاريخ الجزيرة العربية.
أهلها حاضرون سعودياً في كل ما يخص الحياة من الثقافة والسياسة والأدب والفن، لتكون نجابتهم قائداً لهم ليسهموا في حركة النماء لها ماضياً وحاضراً.. ولن نأتي بجديد إذا أشرنا إلى شخصيات هذه المدينة الملهمة، والفاعلة منها متميزة وظاهرة، لكن ما لا يخُتلف عليه فيها وعنها الكرم والطيب والسيرة العطرة بأخلاق أهلها وناسها.
زيارة لهذه الجميلة الحالمة جديرة بأن ترسخ معالمها في ذاكرتك، وتعمق صلتك بها، تدخل القلب بلا استئذان.. فغير أنها مستودع للتاريخ الرائع والكرم والتسامح هي مضرب مثل في الانتماء للوطن.. مدينة لا تعرف فيها الغربة.. وسط دعوات شيبها وشبابها:" تفضل.. قلطنا".
أشعر بالراحة وأنا أتنقل في الحريق.. وسط حراسة طويق الذي أجده شامخاً كما رأيته في مدينتي العظيمة الزلفي.. ليكون شاهداً على رقيهما وتاريخهما العظيم.. وكأنه فارس يتولى مهمة حراسة هاتين الفاتنتين.. و"الله أقوى" ما باليد حيلة أحزم حقائبي لأغادر الحريق، لكن هيهات ستكون الزيارات متتالية، شغفاً بهذه المدينة الوديعة الحالمة.




http://www.alriyadh.com/1930756]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]