مشاهدتي لقرية الغاط القديمة، كل مرة، تجعلني أشعر أنها منحوتة في الجبل الذي يقف خلفها، وتحاول أن تتسلق سفحه أحياناً، يبدو أننا لا نحتاج أن نصنع عمارة معقدة حتى نستثير المشاعر الإنسانية نحو المكان بقدر ما يجب على العمارة أن تندمج مع المكان وتكون جزءاً منه..
لماذا تدهشنا بعض الأمكنة رغم بساطتها الشديدة؟ خصوصاً عندما تقترن بها العمارة الأشد بساطة التي تتحدث عن نفسها بكل صراحة لكن بلغة صامتة تحفر حروفها على طبقات الجبال وجذوع النخيل. لماذا تجعلنا نتوقف لبرهة ونقول: هذا المكان يريد أن يقول لنا شيئاً، ليبوح بأسراره، ويحكي حكاية أو ربما حكايات اختزنتها جنباته منذ فترة طويلة وتتوق لتتواصل معنا؟ تفاجئنا بعض الأمكنة بهذه اللغة المتراكمة الغنية في معانيها والبسيطة في أشكالها. هذا ما شعرت به وأنا أجتاز الممر أو الطريق الذي يمر وسط أحد الجبال المنحوتة أو المشقوقة الممتدة عن جبل طويق، الشق في الجبل شكل جدارين مرتفعين، وكأنها بوابة طويلة لكن نهايتها صادمة، أفق مفتوح إلى ما لا نهاية، يحتضن مدينة الغاط الوادعة بكل هدوء.
قبل سنوات زرت الغاط، وقد أثارتني جغرافية المكان، وكيف أن هذا المدخل العبقري للمدينة يحدث المفاجأة الصادمة للزائر، بل حتى لمن تعوّد أن يأتي الغاط بين حين وآخر، تداخل جبال طويق مع المدينة وكأنها تحتضنها، ومزارع النخيل تحيط بالمساكن وتتواضع عند سفح الجبل، تكوين عبقري تشاهده دفعة واحدة بعد مرورك بين جداري الجبل. الغموض أحد محفزات عبقرية العمارة، العمارة العبقرية ترفض الوضوح لكنها لا تفتعل الغموض، تبحث عن المكان الطبيعي الذي يعزز من قيمة العمارة البسيطة وتنقلها إلى أبعاد تتجاوز المنظور المباشر إلى ما وراء المنظور، انتابني هذا الشعور المذهل عندما انفتحت المدينة كلها أمامي وطلبت من رفيقي في الزيارة أن يتوقف، فنادراً ما تصدمني بلدة سعودية بهذه العبقرية الجغرافية، فهي عبقرية تصنع العمارة ولا يمكن للعمارة أن تصنعها.
على أن الغموض لا يتوقف عند صدمة الدخول إلى المدينة، فالحركة داخل هذه البلدة تجعلك تتفقد وادي الغاط بفروعه التي تتداخل مع كتل المدينة العمرانية وتعطيها شخصيتها، إذ يصعب الفصل بين الطبيعي والمعماري، ومع أن عمارة الغاط بشكل عام شعبية ولا تحمل مواصفات خاصة، إذا ما استثنينا مركز الرحمانية والقرية القديمة، إلا أن هناك شيئاً غائراً داخل هذه الأشكال البسيطة يجعل البلدة برمتها فضاء للمشاهدة والمتعة، أثناء تجولنا في المدينة برفقة مضيفنا الأمير سلطان بن سلمان ذكر الدكتور سلمان بن عبدالرحمن السديري أن جميع المزارع ليست لها أسوار، فهي امتداد للفضاء الحضري الطبيعي الذي يعزز من حيوية الفضاء العمراني. المكان هنا ممتد لا توقفه جدران ويفتح الفضاءات على زوارها ويرحب بهم.
يقول الدكتور السديري، أثناء بناء مركز الرحمانية، وهو عبارة عن مكتبة ومركز ثقافي: "كان هناك في التصميم الأساسي أسوار لكن تم إلغاؤها ولم تنفذ". الرحمانية مفتوحة على الفضاء الحضري المحيط بشكل لا تعرفه المدينة السعودية المعاصرة أبداً، الحزام الطبيعي حولها هو جزء من الفضاء العام للمدينة، حدث هذا قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، ولم تتعلم منه المدن الأخرى، تخيلت لو أن هذا المركز محاط بأسوار، ماذا سيخسر فضاء الغاط العمراني؟ تنخفض الرحمانية عن الشارع العام القريب لتسمح لمستخدمي الشارع أن يشاهدوا خلفية جبل طويق التي تشكل إطاراً بصرياً عبقرياً لعمارة المركز، يعلو بوابة المركز برجان لجلب الهواء إلى داخل قاعات المكتبة، وهي تقنية تم تجربتها في النزل والمسجد الخاص بمركز عبدالرحمن السديري في الجوف، بينما بنيت جدران الرحمانية من "التبن" المضغوط المكسو بالطين لتحقق أعلى درجات الاستدامة المناخية، تجربة عمرانية ومعمارية وتقنية فريدة تستحق أن نتعلم منها.
لا تولد العمارة العبقرية من دون أن تكون بذورها نبتت في مكان عبقري، ومفكرو العمارة الذين تحدثوا عن "الظاهراتية" أمثال الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر" والمعمار النرويجي "نوربرغ-شولز" لم يفصلوا بين المكان الطبيعي والمكان العمراني، وأكدوا أن شرط الجغرافيا لا يمكن التنازل عنه لدفع الإحساس بعبقرية المكان. مشاهدتي لقرية الغاط القديمة، كل مرة، تجعلني أشعر أنها منحوتة في الجبل الذي يقف خلفها، وتحاول أن تتسلق سفحه أحياناً، يبدو أننا لا نحتاج أن نصنع عمارة معقدة حتى نستثير المشاعر الإنسانية نحو المكان بقدر ما يجب على العمارة أن تندمج مع المكان وتكون جزءاً منه. الدرس الذي تعلمته من زيارة الغاط أن هناك الكثير من الدروس العمرانية المجربة والبسيطة وربما العفوية التي تحتويها البلدات السعودية ذات العبقرية الجغرافية، وأنا على يقين أنها كثيرة وربما مهملة ولا يلتفت لها أحد، وأن هذه الدروس قد تعلمنا كيف يمكن أن نصنع عمارة مستقبلية ذات خصوصية سعودية.




http://www.alriyadh.com/1930876]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]