انبثاق الدولة السعودية الحديثة في عصرنا الحديث يربط تاريخ الجزيرة العربية بتاريخ الدولة السعودية وكان هذا الارتباط التاريخي نتاج سلسلة من مراحل زمنية متعددة وأحداث تاريخية متعاقبة مرت وتفاعلت خلال القرون الأخيرة على صعيد الجزيرة العربية، وقد كان لهذه الأحداث أن تستقر على يد الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - ذلك الرجل الفذ الذي شاءت القدرة الإلهية أن يكون على يديه جمع تلك الأطراف المترامية والأصقاع المتباعدة والأرجاء الواسعة من شبه الجزيرة العربية، فكان ميلاد المملكة العربية السعودية كدولة أسست على عبقرية الحكم وقوة العزيمة وحسن الإدارة وتطبيق الشريعة الإسلامية، كيف لا وقد حباها الله باحتضان ورعاية الحرمين الشريفين أقدس بقاع الأرض قاطبة ومهوى أفئدة المسلمين وقبلتهم في مشارق الأرض ومغاربها.
في اليوم الخامس من شهر شوال عام 1319هـ كان الملك عبدالعزيز على موعد مع القدر ليسترد الرياض ويعود بأسرته إلى أرض آبائه وأجداده وليبدأ في كتابة صفحات مشرقة جديدة من تاريخ الدولة السعودية الحديثة، ويُعد هذا الحدث منعطفًا تاريخيًا مهمًا ونقطة تحول كبرى في تاريخ شبه الجزيرة العربية بأسرها، نظرًا لما تمخض عنه من قيام دولة سعودية حديثة بكل مقوماتها تمكنت من جمع شتات متناثر وبناء كيان متماسك وتأسيس ملك قوي وتحقيق إنجازات حضارية واسعة في شتى المجالات.
وعندما شرع الملك عبد العزيز بإعادة بناء الدولة السعودية الجديدة ساعده في ذلك مشاعر الولاء والحب والتفاني التي يُكنُّها سكان المناطق لأسرة آل سعود نظراً لما تتمتع به هذه الأسرة من أصول مكينة وأسس عريقة وجذور راسخة تضرب في أعماق تاريخ المنطقة القديم والحديث، فقد عرف سكان المنطقة معنى الاستقرار والازدهار والأمن ونشر العقيدة الصحيحة وكذلك النشاط الاقتصادي والرخاء الاجتماعي الذي ارتبط بحكام آل سعود خلال فترات حكمهم.
وبعد نجاح الملك عبد العزيز في استرداد الرياض واصل كفاحه الطويل على مدى ثلاثين عاماً من أجل توحيد البلاد وتأسيس أركان الدولة، ولقد قام - طيب الله ثراه - بتوحيد أجزاء المملكة عبر مراحل زمنية هي كما يلي: جنوبي نجد (1319 – 1320 هـ)، الوشم وسدير (1321 هـ)، القصيم (1322 هـ)، الأحساء (1331هـ)، عسير (1338هـ)، حائل (1340 هـ)، الحجاز (1344 هـ)، جازان (1349 هـ).
الألقاب التي تسمى بها الملك عبد العزيز إضافة إلى لقب الإمام فقد تلقب الملك عبد العزيز خلال مراحل تكوين الدولة وتأسيس أركانها بعدد من الألقاب هي: أمير نجد ورئيس عشائرها (1319 هـ)، سلطان نجد وملحقاتها (1339 هـ)، ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها (1344 هـ)، ملك الحجاز ونجد وملحقاتها (1345 هـ). ولقد كان اليوم السابع عشر من شهر جمادي الأولى من عام 1351هـ الموافق للتاسع عشر من شهر سبتمبر من عام 1932م اليوم الذي شهد توحيد البلاد إذ صدر فيه الأمر الملكي بتسميتها باسم "المملكة العربية السعودية" وذلك بدءًا من يوم الخميس 21 جمادى الأولى عام 1351 هـ الموافق 23 سبتمبر عام 1932م (الأول من الميزان). وكان هذا الإعلان بمثابة تتويج لجهود الملك عبد العزيز الرامية إلى جمع الشتات وتوحيد البلاد وتأسيس دولة قوية أصبحت تعرف بالمملكة العربية السعودية تبوأت مكانًا مرموقًا بين الدول وأصبحت ذات شأن وثقل خصوصًا بما منَّ الله به عليها باحتضانها الحرمين الشريفين وشرَّفها بخدمتهما وسدنتهما وبما أفاء به عليها من نعم الثروات الطبيعية التي أسهمت في نقل المملكة إلى دولة عصرية حضارية تنعم بالأمن وتتمتع بالرخاء.
وعن خصال الملك عبد العزيز الشخصية وحنكته السياسية وأثر ذلك في بناء الدولة الحديثة فلقد توافرت للملك عبد العزيز الخصائص السياسية الحكيمة وتجلت فيه الصفات القيادية المحنَّكة والتي مكنته من حمل مسؤولية بناء كيان ثابت وتأسيس دولة حديثة كانت منطقة الجزيرة العربية في حاجة إليها، وقد عُرف عن الملك عبد العزيز تمسكه بالعقيدة الدينية الأصيلة وإيمانه بربه عز وجل وتطبيق شرع الله في جميع جوانب الحياة، ومن خصاله المثلى شغفه بتلاوة القرآن ومحبته للعلم وإجلاله وتوقيره للعلماء، كما عرف عنه فروسيته وبسالته وبعد نظره وحنكته ومراسه في مجابهة الخطوب ومعالجة الأمور، هذا إلى جانب بره بوالديه وسعة اطلاعه وكرمه الواسع وبذله الذي لا حدود له. ومصداقاً لما حظي به الملك عبد العزيز من تقدير واحترام كبيرين لدى الكتاب والمفكرين العرب فقد نشر الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات - يرحمه الله - في مجلة الرسالة في الرابع عشر من شهر يناير عام 1946م مقالاً بعنوان: "عاهل الجزيرة" ينبئ عن وعي سامق وحس دافق لدى مفكري ومثقفي ذلك الوقت بشخصية ومناقب الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - جاء فيه: "من بوادي نجد فاحت عطور الإسلام والعروبة من جديد، وباحت الرمال بسرها المكنون منذ بعيد، وهبت نفحات الرسول صلى الله عليه وسلم على آل سعود فجددوا ما رث من حبل الدين وجمعوا ما شتَّ من شمال العرب، وتهيأت الفرصة مرة أخرى لشريعة الله لتُريَ الناس كيف بسطت ظلال السلام والوئام والأمن على ربوع جزيرة العرب، وتجلت في عبد العزيز آل سعود فضائل العرب الأصلية، فمثل شاعريتها في رهافة حسه وأريحيتها في سماحة نفسه وحميتها في صرامة بأسه، فهو في دينه النقي الخالص وفي خلقه السوي الصحيح دليل ناهض على أن الجزيرة العربية لم تعقم من بعد ما أنجبت أنصار الدعوة وأبطال الفتح، والملك عبدالعزيز من الذين أمدهم الله بسلطانه وعونه ليؤيدوا رسالة ويجددوا دعوة ويوحدوا أمة، وقد اصطفاه الله من آل سعود ليكشف على يديه ما ادخر في هذه الأرض المقدسة من ثراء وقوة وليعود العرب بنعمة الله عليهم أمة واحدة ذات عزة ومنعة، والعرب والمسلمون على اختلاف المذاهب وتباين الأجناس وتنائي الديار يولون وجوههم كل يوم خمس مرات شطر مكة المكرمة والكعبة المشرفة لأنها صلتهم بالسماء ورابطتهم في الأرض ومنارتهم في الحياة. وابن السعود هو ملك الوطن الكبير وإمام المسلمين لذلك أوتي محبة في القلوب فله في صدر كل عربي مكانة وفي عنق كل مسلم ذمة". (انتهى كلام الزيات). وتأبى إرادة الله جلت قدرته إلا أن تشارك البشر في تكريم هذا العبقري الذي أسعد بلاده وقومه وخط أمجد الصفحات في تاريخ الأمة العربية فتكشف له عن مخابئ الأرض وأثقالها فيتدفق النفط في مملكته ويسيل بين أرجائها يحمل تباشير الخير والرغد والنعيم ليس لهذه المملكة السعيدة التي أعزها الله وشرفها ببيته الحرام ومأوى نبيه الكريم فحسب بل لتشمل بلاد العرب والإسلام على حد سواء.
لقد كفل الملك عبد العزيز طيلة تسنمه الملك الأمن والأمان والهدوء والاستقرار لبلاده وشعبه، وأنشأ دولة من أعظم دول العرب في هذا العصر وحمل إليها كل ما أبدعته الحضارة الإنسانية الحديثة من مبتكرات ومخترعات لراحة شعبه وهنائه ونقلهم من عالم التخلف والتمزق إلى عالم الحضارة والتقدم.
ولنقرأ شهادة لأحد الساسة الأمريكيين وهو الوزير المفوض برت فيش (مارس 1940): "الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عبقري قوي الإرادة شديد الذكاء، يشعر الجالس معه بسمو شخصيته المتجلية في قامته المديدة ووجهه الأسمر الذي ارتسمت على قسماته تجارب السنين، وصوته المملوء بالثقة والقوة، وعينيه الناطقتين بالذكاء ودلائل العزم، وقد أثارت إعجابي إحاطته بالمسائل الدولية، حتى لكأنه في وسط الجو الأوروبي وفي محيط السياسة العالمية".
أما المفكر والشاعر والأديب الكبير عباس محمود العقاد فقد نظم في جلالته قصيدة عصماء بمناسبة زيارته لمصر عام 1364 هـ بدعوة من ملكها فاروق (آنذاك) مع العلم بأن العقاد لم يعرف عنه أن امتدح شخصًا في حياته على الإطلاق حتى الملك فاروق نفسه، وقد كان العقاد في معية جلالته مرافقاً له من جدة إلى مصر على نفس الباخرة (المحروسة) التي أقلته مع ثلة من كبار العائلة المالكة ورجال الفكر والسياسة، والقصيدة طويلة ومطلعها:
يا بحر راضك قاهر الصحراء أسد العرين يخوض غيل الماء
حياة باديها وحاضرها معا فاغنم تحية يومه الوضاء
يوم من البشرى يردد ذكره ركب السفين وجيرة البيداء
عش "يا طويل العمر" عيش معمر تحيا به أمم من الأحياء
وفي وسط تلك الأجواء الفريدة الخالدة المفعمة بعبق النصر وعطر الفوز وأريج النجاح لحق هذا العبقري الفذ بالملأ الأعلى هادئ البال قرين العين صادقًا صدوقًا وراضيًا مرضيًا بعد أكثر من نصف قرن من الزمان أمضاها في كفاح متواصل وجهاد دؤوب لتوحيد شتات متفرق وبناء ملك قوي وتأسيس دولة حديثة، دولة لها كيانها ومقامها ووزنها بين دول العالم أفاء الله عليها بكل ما تتوق إليه تطمح له أي دولة من مقدسات ونعم وأمن وسلام.




http://www.alriyadh.com/1932690]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]