كان يجب علينا الاعتناء بدراسة الفلسفات وخاصة الحديثة منها، ودراسة كيفية توغلها في الذهنية وخاصة في مدارج الوعي الممكن والمتاح، والتي يجد فيها المغرضون منافذ اختراقاتهم إذا لم يتشكل الوعي العام بشكل جيد..
كان التحفظ على دراسة الفلسفة وتاريخها ومداراتها واقعاً ملموساً في أمس القريب في بلادنا، إلا أن الإفراج عن محتوى أرففها ودراستها أصبح أمراً متاحاً بل ومطلوباً في رؤية المملكة، لما لهذا التاريخ وتحليله ودراسته وتتبع آثاره في عالم مفتوح أصبح أمراً ملحاً.
ذلك أن كل ما يطرح من فكر فلسفي قديماً أو حديثاً ليس كما يعتقده الكثيرون من علماء الإنتليجيستيا على أنه لا يخرج من كونه نصاً فلسفياً يخص مداراته النصية والإبداعية، بل إن كل ما يطرح على المئرز تتلقفه العقول من دون قصد أو وعي أو قل اعتناء، مما يتسرب عبر فتحات الهواء إلى مكامن الذهن والفكر والوجدان، ثم يتحرك ديناميكياً في الوجدان ليغير كيمياء المخ والتفكير فيتم تشكيل الدماغ بما يؤثر سلباً أو إيجاباً على السلوك البشري بشكل عام، وهنا يحدث ما نسميه بـ(تشكل الوعي العام) بعد مروره بالوعي الممكن ثم الوعي المتاح! ذلك أنه بالفكر الفلسفي تتشكل أذهان الأفراد بين (الوعي الممكن والوعي المتاح والوعي القائم والوعي العام؛ كل ذلك عبر تلك النوافذ -وأهمها الإعلام والجامعات والمدارس– إلى تشكيل البنية الاجتماعية للحماية من اختراقها أو السيطرة عليها من قِبل هذه التيارات أو تلك!
وإذا ما أردنا أن نعّرف ما الوعي الممكن، وما الوعي المتاح، كما عرفهما لويسيان غولدمان وما يشكله من "خطورة الوعي الممكن مع نقيضه الوعي المتاح على المجتمعات أو بما يسمى السوسيولوجيا المعاصرة، ونعتقد بأن ذلك ما تفكر فيه الطبقات العمالية والتي أسماها غولدمان بـ (البلوتاريا)، وكيف يفكر هذا البلوتاري أو ذاك؟ وما هو وعيه؟ ومن أين تشكل؟ وكيف يتشكل نفسياً واجتماعياً ثم انخراطه في بنية اجتماعية متماسكة؟
إنها معادلة صعبة! لكنها سهلة في الوقت ذاته إذا ما تطور الوعي العام وساد كل أفراد المجتمع بسيادة الوعي القائم بالفعل، ذلك أن التمايز بين الوعي الممكن والوعي المتاح هو الركيزة التي يرتكز عليها ما يسمى بالوعي المحتمل (أي بما سيكون)، وهنا تكمن الخطورة إذا ما تشكل الوعي المحتمل على غير وعي بالوعي القائم بالفعل.
إن تشكيل الوعي القائم في هذه الفترة الزمنية الحرجة قد يكون ضبابياً إلى حد كبير، ولذا تتبلبل الأفكار وتختلف المذاهب الفكرية ويسود مناخ متوتر نتاج إهمالنا لهذا الوعي (الوعي القائم)، فنرى الساحات تموج في غفلة من تشكيل الذات المنوطة بتشكل هذا الوعي.
لعلنا نعتقد، بل قد نجزم أن هناك اضطراباً في السلوكيات الفردية وميولها واتخاذ قراراتها، وقد يفسره البعض بأنه خروج عن الأعراف وعن التقاليد مما يعمل على انقسام في الرأي تجاه الآخر وأحياناً عدم قبوله، فظهر لنا مصطلح جديد وهو (التنمر)، والتنمر هنا يأخذ اسمه من صفة السلوك النمري الشرس والمترقب للفرائس، فظهر كثير من حالات القتل والطلاق وتشرد الأطفال وبيع الأعضاء والتجارة بها وبالدين، وقل ما تشاء.
لم يكن ذلك بفعل المصادفة القدرية في تشكيل المجتمع وانتقاله من مراحل الخوف من العيب واحترام الرقيب والوازع الديني أو حتى لنقُل الالتزام بما تأسس في البنية الاجتماعية العربية وهو ما يسمى بـ (الضبط الاجتماعي)، والذي كان يمثله على رأس السلطة الهرمية (شيخ القبيلة)، ثم تتفرع السلطات إلى السلطة النائبة، والتي من شأنها ضبط البنية الاجتماعية والسيطرة على ما يسمى بالقوة الصاعدة كأفراد تحاول الصعود بقوة من القاعدة العامة لهذا الهرم المتمثل سلطة حاكمة للبنية الاجتماعية الهرمية قاعدتها الشعب أي العامة. وهذا التشكيل الهرمي في البنية ذاتها كان في مجتمعاتنا البدوية والعربية يعمل على الاستقرار النسبي في محيط المجتمعات التي تحظى بهذا الضبط الاجتماعي وأهمها الأخلاق والمعتقدات، ثم السياسة تأتي في ذيل الاهتمامات.
في نهاية الأمر كان يجب علينا الاعتناء بدراسة الفلسفات وخاصة الحديثة منها، ودراسة كيفية توغلها في الذهنية وخاصة في مدارج الوعي الممكن والمتاح، والتي يجد فيها المغرضون منافذ اختراقاتهم إذا لم يتشكل الوعي العام بشكل جيد، وعلى سبيل المثال: عندما قمت بدراسة النظريات الفلسفية في موسوعتي نقد النقد عبر منهج نقدي وتحليلي، استطعت أن أُخرج النظرية من كونها تخص النصوص الأدبية إلى الشارع وتشكيل الوعي سواء كان متاح أو ممكناً أو محتملاً وإلى أي مدى تذهب بنا إلى الوعي العام. وفيها حينما ظهرت النظرية التفكيكية على يد روادها وأهمهم جاك دريدا كانت تهدف في ظاهرها الأدبي إلى تفكيك النص، لكنها في غلالتها الخفية تهدف إلى تفكيك كل البنى الاجتماعية والسياسة، فمن أهم بنودها: هدم التاريخ وإعادة بنائه بما يتراءى للبنائين الجدد، ثم هدم التراث، وها نحن نشهد الحملات على هدم كل ما هو ميراث حتى وصل النقاش إلى العقائد بشكل مقيت، ثم كسر الكاريزما وهو كسر قوة المركز على كل المستويات ابتداء من سلطة الأب في الأسرة، ثم التمرد على المديرين والمسؤولين، إلى أن يصل الأمر إلى قمة الهرم وبشكل فج وقبيح، ومن أهم هذه البنود هو محو الهويات والقوميات والانتماء إلى العالم، بأن يصبح الإنسان فرداً في العالم وهو لب العولمة! فالعالم هو مرجعيته هو، فظهر الحقوقيون المدجنين لأهداف غير معلنة.
لقد ظهرت هذه النظرية في بداية التسعينات وكنا نتسابق مع أساتذتنا في الأكاديمية للحصول على كتابها الذي ظهر، لكن هل تمت دراستها، ومدى تأثيرها على كل من الوعي الممكن والمحتمل، والذي يتشكل معظمه بين فئات العمال والصناع والحرفيين والفلاحين وغيرهم من أبناء القاعدة العامة في وطننا العربي، والوصول بهم إلى درجة الوعي العام؟ الإجابة كلا، لم يحدث!




http://www.alriyadh.com/1935718]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]