من الواضح أن الغرب في مقابل روسيا لن يقبل بأمن متكافئ مع روسيا، وفي الجانب الآخر لن تقبل روسيا أمناً قابلاً للتجزئة، العالم سوف يراقب بحذر تطورات هذه الحرب فهي بصمة مهمة في تعديل معايير النظام العالمي وولادته من جديد..
لابد من البداية بحقيقة تقول «إن التفكير بالجغرافيا يقلص الخيارات البشرية» والتفكير الغربي والروسي اليوم هو تفكير جغرافي بحت، ولكن السؤال المهم: أين الحقيقة وماذا يجري بالفعل؟ هناك تاريخ طويل في أوروبا ولكنه كان يعيش في سبات طويل منذ قرون، ولكن مجموعة من الحقائق القائمة اليوم حاولت أو دخلت فعلياً إلى سرداب التاريخ الأوروبي، ومن هذه الحقائق أن حلف الناتو أدرك بشكل دقيق أنه من الصعب ضم أوكرانيا إليه، وفي الجانب الآخر يستحيل الدخول في حرب كونية بين الغرب وبين روسيا، وفي المقابل أصبح من الواضح أن روسيا يمكنها التضحية بكل شيء أمام تجاوز أي خطوط حمراء تضعها وخاصة فضاءها الاستراتيجي.
أوروبا وأمريكا تسعيان إلى إجراء عملية فصل دقيقة وصعبة بين استراتيجيات الرئيس الروسي بوتين وبين الشعب الروسي، والأخطر في هذه المواجهة هو تحول الأزمة إلى صراع قومي، وهذا ما يؤخر الكثير من الدعم الذي أصبحت أوروبا وأمريكا غير قادرتين على تقديمه للقوات الأوكرانية بشكل واضح، التاريخ الأوروبي مليء بالمتفجرات القادرة على خلط المعادلات بسرعة وخاصة أن من يعرف التاريخ الأوروبي يدرك دمويته، لذلك نرى هذه الأزمة وهي تفرض حساسية سياسية دقيقة تحاول أوروبا وأمريكا تمريرها إلى بر الأمان دون استحضار لأي شكل من الصراع القومي الأوروبي.
كل ما تخشاه أوروبا وأمريكا والعالم يدور حول إمكانية تقدم الشعبوية العالمية وصعود الرموز الشعبية وتحولها إلى نموذج سياسي يمكنه جلب التأثير وتصعيد اللغة القومية للشعوب، وخاصة أن العالم مليء بالأيديولوجيات وصراعها، وهذا ما سوف يدخل العالم في حيرة، فالعالم اليوم مهيأ لكل الاحتمالات، وقد تكون العقوبات الاقتصادية وهي البديل القائم للمواجهات العسكرية مجرد قرارات لا تجد طريقها للتطبيق، فروسيا اليوم ترغب في صناعة محور أيديولوجي يبلور التكافؤ بينها وبين الغرب ويرسخ مكانتها كقوة لها دور جدي في صياغة النظام العالمي الجديد.
هذه الأزمة تميزت عن غيرها عالمياً كونها الأزمة الوحيدة بعد الحرب العالمية الثانية التي تخص أوروبا وعمقها وحدها، وهو ما لم يعتد عليه العالم الذي تعود أن الغرب يساهم أو يتدخل في حل مشكلات العالم في مواقع بعيدة عن أوروبا، اليوم المعادلة مختلفة والسياق الدولي حائر والكل ينظر إلى هذه الأزمة بتوجس أو قلق على مستقبل الكون، ولعل السؤال الأهم يقول: هل يجرؤ الغرب اليوم على معاداة الشعب الروسي ومحاصرة روسيا بحلف الناتو؟ إذا كان الخطاب السياسي الغربي يواجه أزمة اليوم، فهي تتمثل في قدرته على شيطنة النظام في موسكو مقابل الاهتمام بالشعب الروسي وإخراجه من المعادلة السياسية، الأزمة العميقة أن أوروبا وأمريكا اليوم أمام مشكلة حقيقية لن يكون من السهل الخروج منها بمجرد هزيمة روسيا أو انتصار روسيا في أوكرانيا، المصالح الأوروبية متشابكة وهناك رماد تاريخي تحت كل عاصمة أوروبية يمكنه أن يثور في أي لحظة، فالتاريخ الأوروبي أعقد مما يتوقع الجميع.
من الصعب الدخول في مناقشات حول حرب نووية لأن ذلك مستحيل، فالكل يدرك حجم المشكلة وهذا ما يجعل المعادلة السياسية تتجه نحو أزمة أعمق، فلا روسيا سوف تسمح بوجود الناتو على حدودها، ولا الناتو سوف يتوقف عن التمدد الذي بدأه قبل ثلاثة عقود في الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي الذي فقد قوته بسقوط الكثير من دوله، روسيا تشعر أن الخطأ التاريخي الذي أسقط الاتحاد السوفيتي لابد أن يكون الدرس الأكبر لها وألا يسمح أحد بتكرار ذلك الخطأ، هكذا وصف الرئيس بوتين الأزمة، الذي يرى أن روسيا اليوم هي شكل مختلف وجديد بعيد عن صورة الاتحاد السوفيتي السابق بتعهداته واتفاقاته. السؤال الأكثر أهمية يتجه نحو قدرة الغرب على ترويض بعضه عبر الوسائل المتاحة؟ ولكن الأزمة تتمحور حول نشوء تصورات جديدة للنظام العالمي، فهناك دول صاعدة لن تجعل مثل هذه الفرصة والأزمة في أوكرانيا دون استثمار، ومن الواضح أن الرحم العالمي قد تلقح من هذه الحرب وبدأ تخلق نظام عالمي هو في مرحلة أولية، ولكنه مع الزمن سوف يكبر ويتشكل ومن ثم يولد، القوى الدولية كلها قلقة من تطورات النظام الدولي وخاصة عندما يتجه إلى الحرب والمواجهة، لكن في النهاية من الواضح أن الغرب في مقابل روسيا لن يقبل بأمن متكافئ مع روسيا، وفي الجانب الآخر لن تقبل روسيا أمناً قابلاً للتجزئة، العالم سوف يراقب بحذر تطورات هذه الحرب فهي بصمة مهمة في تعديل معايير النظام العالمي وولادته من جديد.




http://www.alriyadh.com/1937435]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]