إن أحادية نظرة واشنطن للعلاقات الثنائية، والأنانية المفرطة لمصالحها الدولية على حساب حلفائها وأصدقائها، وسعيها لفرض توجهاتها السياسية والأيديولوجية على من لا يتفق معها من حلفائها وأصدقائها، واندفاعها من غير وعي أو إدراك لتشكيل تحالف دولي ضد روسيا رغبة في عزلها ومحاصرتها دولياً، يمثل خطورة بالغة على حالة الأمن والسلم العالمي إن قررت روسيا مواجهة ذلك بزيادة مساحة العمليات العسكرية..
صِراع القوى العظمى -لزيادة نفوذها العالمي وفرض هيمنتها على مجريات السياسة الدولية- شأن أصيل في علم العلاقات الدولية. وهذا الصراع المستمر والمتصاعد بين القوى العظمى هدفه تحقيق المكاسب الذاتية، وزيادة الخسائر لدى الطرف الآخر المنافس، وغايته أحادية قيادة المجتمع الدولي وتسيير سياساته على حساب جميع الأطراف الدولية التي يجب أن تتبع وتسمع وتنفذ سياسات وتوجهات الطرف الأقوى والمهيمن، ووسيلته للوصول لتلك الأهداف والغايات تتصاعد حتى الاستنزاف الاقتصادي، والاستنزاف الأمني والعسكري، وصولاً للاستخدام الفعلي للقوة للقضاء على احتمالية وجود مُنافس دولي جديد. فإذا كانت هذه هي المُنطلقات العامة لسياسات الهيمنة العالمية وطبيعة الصِراع بين القوى العظمى، فكيف يُمكن قِراءة الحراك السياسي والدبلوماسي المُتصاعد الذي تقوده واشنطن تجاه روسيا التي تخوض صِراعاً مُسلحاً مع أوكرانيا مُنذُ فبراير 2022م؟ وهل تشكل هذه التحركات السياسية لواشنطن تهديداً وخطورة على المشهد السياسي العالمي ومستقبل السياسة الدولية؟
لقد بدأ تصاعد الحراك السياسي والدبلوماسي الذي تقوده واشنطن تجاه روسيا في مارس 2014م، وذلك عندما اعترفت روسيا بشبه جزيرة القرم دولة مستقلة – تمهيداً لضمها إلى روسيا، عندها قررت واشنطن، ومعها الاتحاد الأوروبي وكندا بالإضافة لدول أخرى غير أوروبية، فرض عقوبات محددة على روسيا لإجبارها على التراجع وحل المسائل الخِلافية مع أوكرانيا، إلا أن روسيا ردت على تلك العقوبات بعقوبات مماثلة على تلك الأطراف المتحالفة ضدها. ومُنذُ ذلك التاريخ واصلت واشنطن قيادة وفرض وتطبيق العقوبات على روسيا عند حدود معينة حتى فبراير 2022م، اللحظة التي بدأ فيها الصراع المُسلح بين روسيا وأوكرانيا. ورداً على سياسات روسيا تجاه أوكرانيا، قادت واشنطن حراكاً سياسياً ودبلوماسياً مُتقدماً بهدف عزل روسيا سياسياً عن محيطها الإقليمي والدولي، ومعاقبتها اقتصادياً وتجارياً وصناعياً ومالياً وتقنياً وتكنولوجياً، بالإضافة لحظر الولايات المتحدة وبريطانيا النفط والغاز الروسي، وتعهد الاتحاد الأوروبي بإنهاء الاعتماد على صادرات الغاز من روسيا بحلول 2030، وقد شكلت هذه العقوبات المتنوعة والمتشعبة التي تقودها واشنطن تصعيداً غير مسبوق تجاه روسيا لإجبارها على وقف الصراع المسلح مع أوكرانيا والقبول بسياسات الأمر الواقع التي يتطلع لها حلف الناتو في غرب روسيا، بالإضافة لفرض مزيداً من العزلة السياسية الدولية على روسيا؛ فهل حققت هذه العقوبات المُتصاعدة تجاه روسيا الأهداف التي تسعى لها واشنطن؟!
لقد أثبت الواقع القائم أن جميع تلك السياسات التصعيدية التي قادتها واشنطن تجاه روسيا لم تنجح في وقفها عن تحقيق أهدافها المُعلنة، ولم تتمكن من تحقيق تطلعات واشنطن العميقة تجاه روسيا وخاصة سياسة عزلها ومحاصرتها دولياً. فهل استسلمت واشنطن لهذا الواقع السياسي الدولي الذي يعطي روسياً مكانة دولية أكبر على حساب مكانة الولايات المتحدة العالمية؟!
لا، هي الإجابة المُباشرة على هذا التساؤل. فواشنطن لم ولن تستلم، وسوف تسعى بكل الطرق وبشتى الوسائل لعزل روسيا عن المجتمع الدولي، ولتضمن بقاء روسيا بعيدة كثيراً عن منافسة أحادية الهيمنة الأمريكية على السياسة العالمية، ولتضمن واشنطن بقائها على رأس البنيان الدولي أحادي القطبية عقوداً قادمة. ولتحقيق هذه الأهداف، تعمل واشنطن على رفع مستوى استهداف عزل روسيا من مستوى فرض العقوبات المباشرة، إلى مستوى آخر أكثر تأثيراً وضرراً على روسيا وهو مستوى تصنيف روسيا بالدولة الراعية للإرهاب، وهذا الذي تحدثت عنه مباشرة السيدة/ نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، بتصريحاتها لقناة ام اس إن بي سي MSNBC في 7 مايو 2022م حيث قالت: "إذا لم تكن روسيا مُدرجة على قائمة الدول الراعية للإرهاب، فليتم تمزيق تلك القائمة. فروسيا قوة نووية وتغزو دولة أخرى، وهو أمر يهدد باستخدام أسلحة نووية تكتيكية، كما أن رئيسها حول جنوده لمرتكبي أعمال عنف ومغتصبي فتيات قصر. أعتقد أن إدراج روسيا على قائمة الدول الراعية للإرهاب من صلاحيات الرئيس، لكن يجب أن يحصل ذلك. فأدراجها في تلك القائمة، سيسهل تطبيق العقوبات وتجديدها وفرض عقوبات ثانوية". فماذا يعني ذلك؟!
إن تصنيف روسيا بالدولة الراعية للإرهاب يعني فرض عقوبات ليس على روسيا فقط وإنما على جميع الدول التي تتعامل أو تواصل أعمالها وتعاملاتها مع روسيا، بالإضافة لتجميد كافة الأصول الروسية وخاصة في الولايات المتحدة، وكذلك حظر الصادرات مزدوجة الاستعمال. فإن أقدمت واشنطن على تبني هذه السياسة، فإنها تقدم على خطوة سياسية غاية في الخطورة ليس فقط على روسيا والدول التي تتعامل معها، وإنما على واشنطن ومكانتها العالمية التي سوف تتأثر سلباً في المستقبل. نعم، قد تتأثر روسيا سلباً حال تصنيفها دولة راعية للإرهاب خاصة في علاقاتها السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية والتقنية والشعبية، وقد تتأثر سلباً معظم الدول التي تتعامل مع روسيا وخاصة في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، إلا أن خسائر واشنطن سوف تكون أعظم لأنها ستبدأ تدريجياً بفقدان ثقة حلفائها وأصدقائها الذين لا يشاركونها وجهة نظرها تجاه روسيا مما ينذر ببدء مرحلة تراجع الهيمنة الأمريكية العالمية لصالح قوى دولية أخرى لديها الرغبة والاستعداد للصعود بأي شكل كان على حساب الولايات المتحدة والحلول محلها في الهيمنة على السياسة الدولية.
نعم، إن أحادية نظرة واشنطن للعلاقات الثنائية، والأنانية المفرطة لمصالحها الدولية على حساب حلفائها وأصدقائها، وسعيها لفرض توجهاتها السياسية والأيديولوجية على من لا يتفق معها من حلفائها وأصدقائها، واندفاعها من غير وعي أو إدراك لتشكيل تحالف دولي ضد روسيا رغبة في عزلها ومحاصرتها دولياً، يمثل خطورة بالغة على حالة الأمن والسلم العالمي إن قررت روسيا مواجهة ذلك بزيادة مساحة العمليات العسكرية، ويمثل خطورة بالغة على مكانة الولايات المتحدة العالمية إن قررت الدول الصديقة والحليفة لها الاصطفاف مع روسيا.
وفي الختام، من الأهمية القول بأن على أطراف المجتمع الدولي -وخاصة القوى العظمى والمؤثرة عالمياً- أن تدرك وتعي بأن مجرد الدعوة للاصطفاف الدولي لطرف ضد الطرف الآخر تعني الدعوة المباشرة لزعزعة الاستقرار الدولي التي يُفقد فيها الأمن، وتغيب معها حالة السلم الاجتماعي. فهل ترتقي قيادات القوى العظمى لهذا المستوى من الإدراك والوعي لتحافظ على مكانتها العالمية، أم أن حالة الجهل المُغلفة بالكِبر والغُرور تدفعها لاتخاذ قرارات وتبني سياسات تعود بالسلب على جميع أطراف المجتمع الدولي.




http://www.alriyadh.com/1950081]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]