إن التعليم المعاصر بأدواته وفلسفته وتقنياته والفرص التي يتيحها يمكن أن يكون مشروعاً للإبداع والابتكار، وعلينا أن نستثمر الفرص التي يتيحها فقط...
قد يرى البعض أن عنوان المقال يشير إلى موضوعين مختلفين، فلماذا من التعليم إلى الاستثمار، وقد يرون أن الأجدى أن يكون العنوان: الاستثمار في التعليم، إلا أنني وجدت أن هناك ظاهرة متنامية تتجاوز الأهداف الأساسية للتعليم الذي أصبح في الوقت الراهن إحدى السلع الجاذبة ذات المردود العالي. ولعلي وصلت إلى هذا الاستنتاج بعد زيارتي للمعرض الكبير والمهم الذي نظمته وزارة التعليم الأسبوع الفائت في مركز المعارض في مدينة الرياض. في البداية لا بد من الإشارة إلى أن المعرض والمؤتمر يشكلان ظاهرة تجمع بين فلسفة التعليم ورسالته وبين التوجهات الاستثمارية المتزايدة حول العالم التي باتت ترى في التعليم فرصة للكسب خصوصاً بعد تغير معايير المهارات التي يفترض أن يكتسبها أي إنسان كي يحصل على عمل مناسب، كما أن هناك ثمة اتفاق على تحول كثير من الظواهر سلعاً، فتشييء التعليم غير مستغرب، وتحوله سلعة أمر متوقع، لكن ماذا ستكون انعكاسات هذه التحولات على جودة التعليم وجدواه في المستقبل؟
من المتفق عليه أن كل ظاهرة تحمل جانباً إيجابياً وآخر سلبياً، لذلك قبل البحث في الجانب السلبي لتشييء التعليم، لا بد من الإقرار أن أي سلعة لها مضمون تجاري واستثماري تصبح مجالاً للمنافسة وتخضع للتطور السريع، سواء في الأدوات أو في التقنيات وحتى في الأساليب والطرق والمنهجيات. ولن أقول إنني شهدت هذا التطور بكل تفاصيله في المعرض، لكن الجو العام والمعروضات كانت تشير إلى حيوية هذا القطاع الذي يجمع العالم ويوحده، وبالتالي فإن فرص تطور التعليم متاحة كونه ضمن خارطة التنافس الاستثماري العالمي. كما أن القول إن مستوى مخرجات التعليم في الوقت الراهن ضعيفة يمكن إخضاعها للتساؤل، وسوف أتطرق لموقف حدث لي في معرض تعليم الرياض، فقد رأيت شابين لا يتجاوز عمرهما الخامسة عشر (في الصف الثالث إعدادي)، وكان أحدهما يحمل كاميرا والثاني يحمل حامل الكاميرا وشنطة، أوقفت الشابين وسألتهما ماذا يفعلان في المعرض؟ فقالا: إنهما يعملان على مشروع إعلامي توثيقي، وأنهما يأتيان بعد المدرسة ليقوما بهذه المهمة. يجب أن أقول إنني دهشت من لباقتهما وأسلوبهما في الحديث ومن وضوح الهدف، فهما يعملان هذا المشروع على سبيل الهواية. دعوتهما ليزورا جناح جائزة اليونسكو/ الفوزان لتشجيع العلماء الشباب، وفعلاً زارا الجناح بعد ساعة أو ساعتين، وكنت موجوداً ودار بيننا حوار حول المدرسة ورأيهما في التعليم، وهو ما أدهشني مرة أخرى، فقد كانت آراؤهما نقدية تحليلية، وأنا هنا لا أبالغ أبداً، ما سمعته منهما لا أسمعه عادة من خريجي الجامعة، دقة في التشخيص ووضوح في الرأي، حتى أن حديثهما أثار إعجاب جميع الزملاء. ما أود أن أقوله: إن التعليم المعاصر بأدواته وفلسفته وتقنياته والفرص التي يتيحها يمكن أن يكون مشروعاً للإبداع والابتكار، وعلينا أن نستثمر الفرص التي يتيحها فقط.
بعدها بقليل قابلت أخوة عراقيين يحملون الجنسية النيوزلندية في الركن النيوزلندي في المعرض، ويمثلون شركة اسمها "أدري" تعتني بنقل المعرفة للغة العربية وتبحث في تطوير تصنيفات النشر باللغة العربية، ودار الحديث حول الفجوة المعرفية حول التعليم باللغة العربية، حيث أن 86 % من المجلات المصنفة حول العالم لا يوجد فيها بحث واحد باللغة العربية، وأن إشكالية التعليم باللغات الأجنبية يحدث خللاً في الفهم وإيصال المعرفة، لأن أغلب الطلاب غير متمكنين من اللغات غير العربية بالمستوى الذي يمكنهم من استيعاب المعرفة المعاصرة وهذه المعرفة غير متاحة باللغة العربية. خلاصة القول: إننا نعيش أزمة معرفية حضارية كبرى، وذكر لي أنهم مهتمون بعصر "التدوين الثاني"، ومذكراً لي بعصر "التدوين الأول" أيام الخليفة المأمون ومكتبة دار الحكمة. وهو يؤكد هنا أن الذكاء الصناعي فرصة عظيمة في وقتنا الراهن لسد هذه الفجوة المعرفية. لقد أثارني هذا الحديث خصوصاً أنني من مناصري التعليم ونشر البحوث باللغة العربية، ووجدت أن هناك متسعاً كبيراً لردم الفجوة المعرفية إذا ما أردنا ذلك.
النتيجة التي توصلت لها من زيارتي القصيرة لهذا المعرض المهم هي: أن تشييء التعليم وتحويله سلعة استثمارية ليس أمراً سلبياً بل كان سبباً للفت أنظار المصنعين والمبتكرين في مجال التقنية، الأمر الذي رفع من كفاءة الوسائل التعليمية، لكن بقي أن يقوم المعلم بدوره الذي يفترض أن يقوم به ويستثمر كل هذه الأدوات والتقنيات والتطورات العظيمة كي يصنع بها جيلاً ليس متعلماً فقط بل مبتكراً ومبدعاً.




http://www.alriyadh.com/1950661]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]