لا بد في بادئ الأمر أن نفرّق بين (قصة المرض)، أو (القصة المرضية) تلك التي يرصدها الأطباء في ملفات مرضاهم، بعد أن يقوموا بالكشف عليهم، وتشخيص حالاتهم، ورسم خريطة المرض منذ بدايته إلى أن وصل المريض إلى ما هو عليه من تحسّن أو عدمه، ويطلق بعض الأطباء على هذا اللون من الوصف المرضي أيضاً (القصة السريرية)، وبعضهم يسميها (السيرة السريرية)، وفيها يطرح الطبيب كل ما يريده من أسئلة يتتبّع من خلالها قصة المرض، وما رافقه من تطضورات يمكن وصفها بالأحداث المرضية، وهنا يحضر الأدب مع الطب في عوامله السردية المهمة، وهي عوامل لا ننكر أنها بالغة الأهمية، يفيد منها الطبيب كثيراً في معرفة مريضه، وكيفية التعامل معه، وإعطائه العلاج المناسب، سواء أكان هذا العلاج إرشاداً، أم دواءً، أم جراحةً.
ولئن كانت القصة العلاجية قائمة في المقام الأول على ما يسرده المريض، ويدونه الطبيب، فإنها في ذلك تحقق بعض المعايير السردية المهمة، إذ نجد فيها حواراً بين الطبيب ومريضه، وهو حوار قد تتوافر فيه بعض الشروط والأركان التي يعرفها السرديون، كما يحضر الوصف في هذا اللون من القصص بشكل جلي، ويمكن عدّ الوصف عنصراً مهماً من عناصر تشكّل الحالة المرضية، ومعرفة أسرارها، كما أن الزمنَ ملموسٌ كذلك في القصص المرضية، وذلك عندما ينتهج الطبيب مسلكاً تاريخياً مع مريضه في تحديد بدايات المرض، واسترجاع إنذاراته الأولى، واستشراف حالته فيما بعد، وكذا الأمر في التبئير الذي هو وجهة نظر الطبيب، والاستماع إلى رأي المريض، وعلى كل حال فإن القصةَ المرَضية أو العلاجية أو السريرية – أيا كانت مصطلحاتها - أثرٌ سردي يكاد أن يكون مكتمل العناصر، وربما صار فيه من الإدهاش، والتشويق، والمفارقات، والتكثيف، والتلخيص ما يجعله موضوعاً طبيّاً ذا مواصفات أدبية، تسهم بكل وضوح في سردية المرض.
وفي شأن أكثر أدبية قد توصف القصة بالمرضية، أو العلاجية، أو السريرية، أو العلاج القصصي (الببليوتيرابيا)، وذلك إذا كانت صادرة من مريضٍ عاش تجربة مرضية تستحق أن تكون قصة تروى، ولا سيما إذا كان المرض منهكاً، والمعاناة شديدة، عندئذ تصبح القصة واقعية، وصادقة، ذات عواطف ملتهبة، وأحداث مترابطة، والسارد فيها راوٍ عليم، يقص ويحكي من جهات نظر مختلفة، ويمكن أن يكون لقسوة المرض وقوته أثره البيّن في جمالية القصة وشعريتها، وبخاصة إذا صدرت من أديب، شاعراً كان أو ناثراً، ويمكن أن نحيل هنا على المتنبي في وصف زائرته، وابن الوردي في وصف طاعونه.
ولئن وصف الأدباء في العصر الحديث المرض وصفاً عاماً، كما فعل المنفلوطي، والرافعي، وغيرهما، فإن القصة المرَضية، أو العلاجية هي تلك التي يصفها المريض وصفاً ذاتياً دقيقاً، يرسم من خلالها آلامه، وآماله، وتتوافر فيها آليات الحكاية، وقد تكون القصة قصيرة، وذلك إذا اختزلت في تضاعيفها أحداثاً عميقة ومؤثرة، ولعلي هنا أستشهد بآخر قصة مرضية طالعتها، كتبها أستاذي الدكتور عبد الله بن سليم الرشيد تحت عنوان (الموت الزائر)، افتتحها بمطلع يوحي بالنهاية، يقول: «أُطفئِت الأنوار بعد انقضاء وقت الزيارة ..»، وجعل القارئ مشدوداً معه، يتابع تسلسل الأحداث، يترقّب، يتوجس، يبتسم، ويحزن في آن، وقد ختمها ختماً لطيفاً، بعد أن غمرها بعناصر السرد الشائقة، حتى جعلت منها قصة مرضية علاجية سريرية بامتياز.




http://www.alriyadh.com/1955672]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]