الاستفصال في مكانه الموجِب له لا يقتصر على استنطاق من رأيت منه ما تظنه مشكلاً، فلسان الحال قد ينوب عن لسان المقال، فيُفصح عن التفاصيل لمن نظر في سياق الأمور والأحوال التي تحيط بها..
الحقيقة مطلبٌ نبيلٌ وهدفٌ سامٍ، ولا أدل على ذلك من أن الناس قسمان: قسم طالب لإدراك الأمور على حقيقتها بالفعل مُتحرٍّ لإصابتها، ومن كان هذا حاله فلا غبار على أنه ناشدٌ لها، سائلٌ عنها، مُفتّش في زوايا الوقائع عنها، وقسم لا يأبه بها، بل بعض أفراد هذا القسم يسعى لقلب الحقائق وتزييفها، لكنه يتظاهر بطلبها، ويوهم الناس أنه يسعى لمعرفتها، وأنه يحاول أن يبني الأحكام والتصورات والقرارات على أساسها، فهو يعي أن احترام الناس للحقيقة من حيث هي حقيقة أمرٌ مركوزٌ في فطرهم، ومعلومٌ أن أي خصلة يدعيها من ليست فيه ولا يجرؤ مخالفها على إعلان أنه ضدها فهذا أعدل شاهد على نبلها وأهميتها، وهناك أساليب كثيرة وتصرفات متنوعة تغتال الحقيقة وتودي بها، ومن بينها عدم الاستفصال في المواطن التي يجب فيها، وتدل على أن من صدرت منه لا يهمه أن يقف على جلايا الأمور على حقيقتها، بل يكفيه أن يجد مظهراً معيناً ينطلق من خلاله ويؤسس عليه ما شاء، ولي مع الاستفصال وقفات:
الأولى: أن الحقيقة قد تختفي بين طيَّات الإجمال المكتنف بعض التصرفات والمواقف، فمن كان حريصاً على الصواب استثار حقائق الأمور بمناقيش الاستفصال، فلا يتعامل مع تصرفٍ يحتمل الصواب والخطأ إلا إذا عرف جميع جوانبه، وإذا كان هذا التصرف مما تترتب عليه أحكام أو مواقف نظر هل توفرت فيه شروط إفضائه لتلك الأحكام والمواقف وانتفت عنه موانع ذلك، وفي الهدي النبوي كثير من النماذج المشرقة للاستفصال عن خبايا الأمور، فمن ذلك سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاطب بن أبي بلتعة - رضي الله تعالى عنه - عن سبب مكاتبته كفارَ قريش بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما استفصله قال له: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ» والحديث متفق عليه، وفعل حاطب قد يُفهم من ظاهره الممالأة على المسلمين بدافع إرادة السوء لهم والكيد للإسلام، لكن دفعه إليه دافعٌ مُعيَّنٌ ظنّ أنه مُسوّغٌ له، ولما ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم صدّقه فيه.
الثانية: الاستفصال في مكانه الموجِب له لا يقتصر على استنطاق من رأيت منه ما تظنه مشكلاً، فلسان الحال قد ينوب عن لسان المقال فيُفصح عن التفاصيل لمن نظر في سياق الأمور والأحوال التي تحيط بها، فكثيرٌ من الوقائع التي تحدث بين الناس وتسبب الشرخَ في علاقاتهم لا تعدم مؤثراتٍ خارجةً تخفف من إشكاليتها إذا نظر إليها الطرف الآخر بنظرةٍ إيجابيةٍ يتفحص من خلالها ليجد مخرجاً حسناً يحمل عليه الأمر، فأحياناً يُمكنُ الإنسانَ تفسير موقف صاحبه من خلال ظروفٍ معينةٍ تحيط به، ولا يحتاج ذلك إلا إلى وقفةٍ مدعومةٍ بشيءٍ من التأمل والتروِّي والتثبت، وتلك الوقفة من الصعوبة بمكان أن يتأتى للإنسان أن يُوفّق إليها؛ لأنها على عكس ما تُسوله النفس الأمّارة بالسوء، لكن من رزقه الله ذلك ولج إلى الإنصاف من أوسع أبوابه، ونال بركة تحسين الظن بالمسلمين وحمل أمورهم على أحسن المحامل، وتلك درجة عالية من سماحة النفس ودماثة الخلق وقد صدق الشاعر إذ قال:
رُزِقتَ أَسمَحَ ما في الناسِ مِن خُلُقٍ
إِذا رُزِقتَ اِلتِماسَ العُذرِ في الشِيَمِ
الثالثة: من التهافت والسطحية أخذ الأمور على إجمالها والاكتفاء بذلك من دون استفصالٍ ولا تأملٍ ولا التماسِ مخرجٍ، ومن كان هذا طبعه ابتلي بارتجال الحلول والانطباعات، ولم يبال على أي شخصٍ أسقط أحكامه الارتجالية، وانسد أمامه باب الإنصاف؛ ولهذا ابتلي بعض من جرى على هذا المنهج بالتعجل حتى وصل الأمر بهم إلى انتقاد خير الناس وأهداهم طريقاً، فهذا بعض أسلاف الخوارج لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين تجرأ على مقام النبوة، واتهم النبي الأمينَ في قسمته فقال له بكل بجاحةٍ: "اتَّقِ اللهَ، يَا مُحَمَّدُ" وما أزلقه في هذه المدحضة إلا الجمود على تصورٍ مُجملٍ، وعدم الحرص على معرفة ما هو عين الصواب في الظرف الذي قُسمت فيه تلك الغنائم، وكما أنه سنَّ تلك السنة السيئة من المشاغبة على الأحكام الشرعية، فقد تبعه خلف الخوارج جيلاً بعد جيل في المشاغبة وفي عدم الاستفصال وركوب متن المجملات، فمن نظر في أطروحاتهم وتنظيراتهم وجدها مبنية على مجملات لم يستطيعوا فهم التفصيل الذي هو الحق فيها.
http://www.alriyadh.com/1957953]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]