إن في إسعاد الآخرين ومواساتهم لذة يوجدها الله سبحانه في النفس، ليجد المرء نفسه بطبيعته في أنظار الآخرين، وهذه السجية بسببها يُغرس له الحب في قلوب الآخرين، فالقلوب والأفئدة تهوي وتحب الأخلاق الزكية الراسخة..
في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير - أحسبه قال: كان فطيماً -، قال: فكان إذا جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فرآه قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ - طائر صغير كالعصفور-؟ قال: فكان يلعب به".
من سياق هذا الحديث أنتخب فائدة واحدة من بين أكثر من ستين وجهًا من الفوائد والفقه، كما نقل ذلك ابن حجر رحمه الله: "قال أبو العباس الطبري: وفيما روينا من قصة أبي عمير ستون وجهاً من الفقه والسنة وفنون الفائدة والحكمة". من تواضعه وحسن سياسته لرعيته ورحمته واهتمامه بتفاصيل الحياة التي عليها تدور رحى السعادة، وهو ما أود الحديث عنه في هذا المقال، فهذا الطفل أبو عمير كان يملك عصفورًا يسمى "النغير" يلعب به فيما أبيح له بغير أذية، لكنه مات، فحزن عليه بطبيعته البريئة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حزنه أراد أن يلاطفه ويمازحه ويدخل عليه السعادة والسرور عوضًا ومواساة، فكان يقول "ما فعل النغير يا أبا عمير" فيأتي أبو عمير يرتمي في حضن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
هذه اللفتة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن تصنعًا منه، بل كانت من جميل صفاته وشمائله الراسخة، حيث كانت ملازمة له مع كل من يعتريه همّ أو حزن، كبيرًا كان أو صغيرًا، لا تقف الحواجز المصطنعة بينه وبين أسلوبه التربوي الذي هو اختيار الله ليكون نبراسًا ونورًا لكل أمته بل وللعالمين أجمعين، «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
إن في إسعاد الآخرين ومواساتهم لذة يوجدها الله سبحانه في النفس، ليجد المرء نفسه بطبيعته في أنظار الآخرين، وهذه السجية بسببها يُغرس له الحب في قلوب الآخرين، فالقلوب والأفئدة تهوي وتحب الأخلاق الزكية الراسخة، وفي الحديث "إن الله تعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض..." فحين يتحدث الناس ويروي الرواة هذا الفعل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم يروونه على وجه التعريف بأخلاقه وتواضعه ومحبته لأمته، لا على وجه أنه عرض له عارض أجبره على إظهار التواضع رياءً وسمعةً وظهورًا.
وفي نثرات الأدب من ذلك كثير في مجالس الناس، حيث يعرف الكبر والعجب بالنفس في كثير ممن كان له حضور اجتماعي، أو أي نوع من أنواع الارتباط بالناس، فيرى أن في قربه من البسطاء والضعفاء والأطفال تنقصًا لمكانته، وحطا من هيبته وازدراءً بمركزه، فيترك ذلك حفاظًا على ما في نفسه، وهو بذلك لا يُحرم الآخرين من بعض ما قد يستمتعون به إذا ما تأسى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في رحمته وتواضعه، بل يُحرم نفسه أيضًا من الاستمتاع بتفاصيل الحياة، وبما يعقبه التواضع وإدخال السرور على الآخرين في النفس، ومن الأجر الكبير المترتب على ذلك عند الله، وفي الحديث: "أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً" وفي الحديث الآخر قال عبد الله بن الحارث: "ما رأيت أحداً أكثر تبسّماً من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم " فوجهه وسمته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم تدعو إلى السرور والسعادة:
أخو البِشْر محبوبٌ على حُسْنِ بِشْرِه
ولن يعدمَ البَغْضَاءَ مَن كان عابسًا
ويسرعُ بخلُ المرءِ في هتكِ عرضِه
ولم أرَ مثلَ الجودِ للمرءِ حارسًا
وليس هناك أجمل ولا أعلى من كرم الأخلاق، وقد جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك، ولنا فيه صلوات الله وسلامه عليه إسوة حسنة، إن كنا نريد الله والدار الآخرة. هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1966415]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]