من الاجتزاء الخطير اجتزاء تقويم جدوى الأعمال والمساعي الحيوية من تعلمٍ وعملٍ وتكوين أسرةٍ، فبعض الناس يُحجمُ عن بعض هذه الأمور ونحوها بمجرد أن يراه محفوفاً بالمصاعب أو محتملاً لبعض الخسارات، أو محتاجاً إلى تحمُّل بعض الحزازات..
إنما تظهر حقائق الأمور وصفات الناس وأحوالهم وما يستحقون من رفعٍ أو وضعٍ أو مصاحبةٍ أو مجانبةٍ بتوسيع النظر فيها، والتأمل في خباياها، واستجلاء غوامضها بواسطة جلاياها، والإخلاص في طلب الوقوف على الحقيقة انطلاقاً من كونها ضالة العاقل المنشودة، وأخطرُ عائقٍ يحول بين الإنسان وبين الحقيقة اجتزاء جزءٍ منها وجعله أساساً يُبنى عليه ما يُبنى على الحقيقة الكاملة من أحكام، ويقع ذلك من المضللين الذين يلبسون الحق بالباطل بغرض الإغواء كما وقع من رؤوس البدع المضلة والأحزاب المغوية، وقد يقع بسبب العُجْب والتعالم الذي يعتري بعض الناس بمجرد إدراك بصيصٍ من جزئيات الحقيقة، فيتكاسل عن المشقة بالبحث عن الحقيقة، ويعمد إلى اقتطاع الحصة التي استشعرها، ويرفع بها عقيرته على أنها الحقيقة الكاملة، مع أنها باجتزائها من بقية الأجزاء صار ما يتفرع عنها باطلاً، ولي مع خطورة الاجتزاء وقفات:
الأولى: اجتزاء جزءٍ من حقيقة الأمر ومعاملته على أنه المجموع المعوّل عليه ينطوي على غلوٍّ وتضليلٍ، وأخطر أنواع الاجتزاء ما تمارسه الفرق الضالة -في مختلف العصور- على نصوص الشرع، فمن ديدنهم الخطير العبث بالنصوص الشرعية، وعدم الرجوع في تفسيرها إلى الراسخين في العلم، ومن مظاهر ذلك تجزئتهم منها نصاً معيناً يتعاملون معه وكأنه لم يأت نصٌّ غيره، كما فعل الخوارج بآية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، فكفَّروا بها خيار الأمة من المهاجرين والأنصار ومن معهم واستباحوا بها الدماء، ولم يُنظروا إلى سياقها والنصوص الأخرى التي تعصم دماء أهل القبلة، وكذلك صنيعهم مع نصوص الوعيد التي اقتصروا عليها وكأنها لم يأت من النصوص غيرها، فكفَّروا بها مرتكبي الكبيرة، وخلف من بعدهم خلف في عصرنا اجتزؤوا مبادئ الدين وقضاياه في شعاراتٍ وأحزابٍ يُوالون ويُعادون عليها، ويُحاولون أن يشقوا بها صفوف المجتمعات، ويهدمون بمعاولها الخطيرة أوطاناً كاملة على رؤوس مواطنيها، وكُلُّ هذا ضلالٌ وزيغٌ سببه اجتزاء نصوص معينة من بقية النصوص الشرعية، ومن هداه الله تعالى إلى تمام الحقيقة أدرك أن النصوص الشرعية مترابطةٌ فيما بينها يُبَيِّن بعضها بعضاً، ويُقيِّدُ مُقيَّدُها مطلقَها، ويُقدَّمُ خاصُّها على عامِّها، والمرجع في ذلك إلى ما تقرر عند العلماء الراسخين، وأن مصالح الإسلام والمسلمين أعمُّ من أن تنحصر فيما يرسمه لهم تنظيمٌ لا بَصَرَ له بمجريات الأمور.
الثانية: من الخطأ اجتزاء صفاتِ إنسانٍ ومواقفه في صفةٍ معينةٍ أو موقفٍ خاصٍ، وإذا اجتُزئت خصالُ الفاضلِ في غلطةٍ قُدِّرتْ عليه فذلك ظلمٌ شنيعٌ، لأن كلّاً من الصفات والمواقف عبارةٌ عن مجموعةٍ من المقومات يُجبلُ عليها صاحبها، ثم يُنمِّيها ويهذبها أو يكتسبها بالتخلُّق بالفضائل والتمرن عليها، وهي رصيدٌ تراكميٌ يقتضي الإنصاف أخذه بعين الاعتبار كمجموعٍ، وقد يكون الإنسان نبيلاً فاضلاً بصفاته كريماً حسن المعشر شهماً في مواقفه، لكنه لا يخلو من بادرةِ هفوةٍ تصدر منه فالعصمةُ موقوفةٌ على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسائر البشر يكفي الواحدَ منهم نُبلاً أن تكون كبواتهم معدودة، وقد قيل في المثل: (الطيب يحضر ويغيب) والسنة النبوية في مثل ذلك إقالة عثرة الكريم الفاضل والإغضاء عن هفوته، وعلى هذا جرى جهابذة العلماء فإذا كثرت محاسن المرء وشاع الثناء عليه جاز عندهم القنطرة، ولا يلتفتون إلى غمزةٍ لا يَعدَمُ من يُنقِّبُ فيه عنها، وذلك خُلُقٌ عربيٌّ أصيلٌ عبَّر عنه حاتم الطائي بقوله:
وأغْفِرُ عَوْراءَ الكَريمِ ادّخارَهُ ** وأُعرضُ عن شتم اللئيم، تكرُّما
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقةٍ تجمع شتات هذه المسألة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أخرجه مسلم، ويُستفادُ منه عدم اقتطاعِ خصلةٍ من خصال المؤمن تُنفِّرُ عنه، والواقع أن له خصالاً حميدة إذا نُظِرَ في مجموعها كان مرغوباً فيه.
الثالثة: من الاجتزاء الخطير اجتزاء تقويم جدوى الأعمال والمساعي الحيوية من تعلمٍ وعملٍ وتكوين أسرةٍ، فبعض الناس يُحجمُ عن بعض هذه الأمور ونحوها بمجرد أن يراه محفوفاً بالمصاعب أو محتملاً لبعض الخسارات، أو محتاجاً إلى تحمُّل بعض الحزازات، ولا يدري من يُركِّزُ على هذه المصاعب أن جدوى المرغوبات بمجموعها يذوب في ينبوعها جميع المحذورات المذكورة، وكل الناجحين الذين يغبطهم الناس فيما وصلوا إليه لم يجهلوا تلك الصعوبات حين أقدموا على طلب مرغوباتهم، لكنهم لا يأبهون بها، ولو انتظروا أن تتهيأ لهم معالي الأمور بلا مشقةٍ لطال انتظارهم وقعودهم مع الخالفين، لكن سَمَتْ بهم نفوسٌ أبيَّةٌ للتواني فنالوا بفضل الله تعالى ما نالوا.
http://www.alriyadh.com/1970760]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]