يكثر النقاش بين فينة وأخرى عن الصحافة ومستقبلها في الوطن العربي، وإذا ما كانت ستختفي بعد أن تراجعت العائدات المادية لكثير من المؤسسات الإعلامية التي تشرف على نشر وطباعة صحفٍ ومجلاتٍ متنوعة، كانت في زمنٍ مضى تلقى رواجاً كبيراً، وتحقق عائدات مادية مجزية، ويتسابق المعلنون على الترويج لمنتجاتهم عبر صفحاتها، إلا أنها اليوم تجد ذاتها بعيدة عن القارئ والمعلن معاً، بل أقل تأثيراً سياسياً وثقافياً واجتماعياً أيضاً.
لقد اختلفت سياقات التلقي وأدواته. كما أن المتلقيَّ لم يعد الآن مجرد متفاعل سلبي لا دور له. هو في الوقت الحالي مُرسلٌ أيضاً وفاعل، لا يمكن تجاهل أثره أو التعاطي معه وكأنه مجرد قارئ أو زبون في السوق وحسب!
مع وسائل التواصل الاجتماعي، وتقدم التقنية، وتغير عادات الناس نحو مزيد من التشتت والسرعة والرغبة في الحصول على الموجز الإخباري لا التفاصيل الكثيرة، وأيضاً توفير مزيد من المال عوض شراء عدد من الصحف اليومية والمجلات الشهرية والأسبوعية، مع كل هذه التفاصيل التي هي مظاهر لتبدلات معرفية عميقة جداً، نجد أن رهطاً من الجهات الإعلامية لم تحسنُ قراءتها والتعامل معها.
محاولات التكيف مع المتغيرات السريعة، دفعت كثيراً من المؤسسات إلى الاعتقاد أن مجرد استخدام الشبكات الاجتماعية قد يخرجها من الأزمة. أو حيازتها على منصات إلكترونية في الفضاء السيبراني، أو الترويج لمقاطع خفيفة من خلال "سناب شات" وسواه من منصات الفيديو، كل هذه القنوات جربتها مؤسسات صحافية، بل استعانت بـ"مشاهير السوشال ميديا" علهم يرجعون لها الألق، وصارت تبتعد كثيراً عن الجدية والتحليل والعمق نحو الأخبار "الصفراء" ومواكبة ما يحدث من جرائم وقصص غريبة أو أحداث طريفة، ساعية لكسبِ الزوار والمعجبين، دون تمحيص في نوعيتهم وإذا ماكانوا مجرد عابري سبيل أو قراء لهم ولاء للمؤسسة الناشرة لهذه المواد، يهمهم البحث عما وراء الخبر وتفاصيل الحدث.
من هنا، الخلل ازداد أكثر، والمشكلة تعمقت، لأن الصحافة فقدت دوراً مهماً لها بوصفها "رافعة للتنوير"، و"سلطة رابعة"، وإحدى الأدوات المهمة التي تدفع نحو السجالات الحقيقية والنقاشات النقدانية، التي تولد من خلالها الأفكار المؤثرة في المجتمع في زمن التحولات الكبرى.
الصحافة هنا، أشبه بـ"العقل الموازي" كما سماها الأستاذ مازن السديري في مقال له نشرته "الرياض" بعنوان "هل الصحافة مازالت مهمة؟ وكيف لها أن تبقى؟"، أكد فيه على أن "الصحافة مرتبطة بتطور المجتمع فكلما كانت متقدمة استطاعت أن تجذب المجتمع نحو آفاق أوسع، والعكس كلما كانت متراجعة كانت شعبوية تردد ما يريد أن يسمعه الغالبية ونشرت التعصب"، معتبراً أن أحد أهم أدوارها "مساعدة المجتمع في تطوير وعيه الذي ينعكس على سلوكه وإنتاجيته"، ولذا فالسديري يعتقد أن "كل مجتمع بحاجة (للعقل الموازي) الذي يناقش التغيرات ويحللها في ظل تسارع الأخبار والأحداث والتغيرات". وهنا مكمن قوة الصحافة الحقيقية، المبنية على المهنية والعلمية والحياد والموضوعية والتحليل والاستقصاء والموثوقية. وجميع هذه الثيمات قيمٌ جدُ مهمة، ينبغي الاشتغال عليها وترسيخها، وتدريب الصحافيين الجدد عليها، كي يكتسبوا مهاراتها وأخلاقياتها، ولا يكونوا مجرد أفراد يبحثون على الشهرة وحسب، كما هو حال غالبية الناشطين في الشبكات الاجتماعية والذين يعتقدون أنهم "الصحافيون الجدد"، متناسين أو غير مدركين أن الصحافة الحقيقية لها معنى آخر، هم بعيدون كل البعد عنه!
http://www.alriyadh.com/1970895]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]