يستدعي المدير الموظف في تلك القاعة الكبيرة حيث تصطف المكاتب الكثيرة وحيث لا حاجز زجاجياً ولا من أي نوع بين مكتب المدير وبقية الموظفين، وبصوت عالٍ ونبرة قاسية يبدأ في شن هجوم لا ينقطع من التوبيخ واللوم بسبب فشل في تنفيذ مهمة أو تسليم تقرير فيه أخطاء أو بسبب إفساد علاقة مع أحد العملاء المهمين. ويظل الموظف يستمع في صمت وهو ينظر إلى الأرض ولسان حاله يقول:"ليت الأرض تنشق وتبلعني!". ويعود بعدها إلى مكتبه والهم والغم يجتاحان ملامح وجهه والضغوط النفسية تطبق بثقلها الشديد على صدره. هذا المنظر ليس بغريب في الشركات اليابانية ولا على ثقافة العمل هناك. وفي أسوأ الأحوال قد يقود ذلك الموظف إلى الانتحار أو الإصابة بأمراض نفسية.
بالنسبة لشريحة من المديرين اليابانيين فالأمر عندهم أقرب إلى المعلم أو المربي الذي يحرص على تربية طلابه وتقويم مشكلاتهم ليكونوا أفضل وأكثر قدرة وكفاءة وإنتاجية، خاصة مع ثقافة العمل التقليدية في اليابان والتي كانت الشركات الكبيرة معها لا تفصل الموظفين وتبقيهم من التعيين إلى التقاعد. ولكن النظرة تغيرت مؤخراً لدى عدد من الشركات والمؤسسات والتي راحت تنظر إلى هذه السلوكيات كنوع من التحرش باستخدم قوة المنصب أو السلطة (Power Harassment)، وفي دراسة حكومية أجريت عام 2016م في اليابان، أظهرت النتائج أن 30 % من العينة واجهت مشكلة التحرش باستخدام قوة السلطة خلال آخر ثلاث سنوات عمل. ورغم إصدار قوانين رسمية للتعامل مع هذه المشكلة بشكل رسمي فما زالت التحديات قائمة في المجتمع الأعمال الياباني. وفي الواقع نفس الأمر ينطبق في الشركات الكورية التي تسمي هذه الظاهرة باسم جابجيل (Gapjil) وبدأت تسن القوانين لمكافحتها وخصصت إحدى المنظمات الكورية مركز مكالمات لاستقبال الشكاوى على مدار 24 ساعة حول التحرش باستخدام قوة المنصب.
في الواقع لم أستطع العثور على دراسات تتناول مشكلة التحرش باستخدام قوة السلطة أو المنصب في العالم العربي، ولكن ما أستطيع قوله هو أن هذه الظاهرة قد تحصل في أي مجتمع وظيفي وليست حصراً على اليابان وكوريا الجنوبية. وتزداد هذه المشكلة مع انعدام الآليات الخاصة بمعاقبة المديرين المتسلطين والإبلاغ عن تجاوزاتهم بحق مرؤوسيهم. وما يزيد الأمر تعقيداً عندما يغيب التأهيل النفسي وتطوير المهارات القيادية والسلوكية لدى من يتولون المناصب الإدارية. وكما أن لدينا قوانين تحارب التنمر في المدراس وخطابات الكراهية في مواقع التواصل، فهنالك حاجة لدراسة مشكلة التحرش باستخدام قوة المنصب أو السلطة وسن القوانين اللازمة لمكافحتها وتجريمها.
وباختصار، التحرش باستخدام قوة السلطة جريمة وتتضمن الصراخ وتوجيه الإهانات اللفظية والتعدي الجسدي والتقييم الظالم والتهديدات التي تخرج عن نطاق العمل المهني وغيرها. ولكن هذا لا يجب أن يعني بأي حال ألا يمارس المدير أو المسؤول دوره في التوجيه والإرشاد المحاسبة والنقد في إطار من الاحترام والموضوعية والمهنية.
وأختم بكلمات فرانسيس بيكون: "تجنب الحديث أثناء الغضب، فقد يكون كلامك صحيحاً، ولكن حتماً أسلوبك خاطئ".




http://www.alriyadh.com/1972141]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]