لقي هذا الكتاب استحساناً في روسيا، وكان له تأثير كبير داخل الجيش والشرطة والنخب السياسية الروسية، ثم إنه استُخدم ليكون كتاباً مدرسياً في أكاديمية هيئة الأركان العامة للجيش الروسي. ومن هنا اهتمت الشخصيات السياسية الروسية لاحقاً بديوغين، فهو ذلك المحلل السياسي والفيلسوف الروسي الذي يتبنى أيديولوجية قومية قائمة على فكرته عن الأوروآسيوية الجديدة..
لم يكن كتاب الجيوسياسية -وهو من تأليف ألكسندر ديوغين والذي نشر عام 1997- مجرد أطروحة فكرية أو فلسفية، بل هو كما عنونه بأنه «أسس الجغرافيا السياسية: المستقبل الجيوسياسي لروسيا».. وربما تجاوزت سطوته خارج حدود موطنه فالأفكار لها أجنحة كما يقال!
فلقد «لقي هذا الكتاب استحساناً في روسيا، وكان له تأثير كبير داخل الجيش والشرطة والنخب السياسية الروسية، ثم إنه استُخدم ليكون كتاباً مدرسياً في أكاديمية هيئة الأركان العامة للجيش الروسي. ومن هنا اهتمت الشخصيات السياسية الروسية لاحقاً بديوغين، فهو ذلك المحلل السياسي والفيلسوف الروسي الذي يتبنى أيديولوجية قومية قائمة على فكرته عن الأوروآسيوية الجديدة، حتى طوّرت علاقة وثيقة بين هذه الفكرة والدوّلة الروسية الحديثة، كما أن المتحدث السابق لمجلس الدوما الروسي جينادي سيليزنيوف -والذي كان ديوغين مستشاراً له في الجغرافيا السياسية- قد حث على جعل عقيدة ديوغين الجيوسياسية جزءًا إلزامياً من المناهج الدراسية.. ولذا كان للكتاب تأثير في السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية منذ عام 2000 ويعتقد أن هذه الأيديولوجية أدت في النهاية إلى الحرب الروسية الأوكرانية».
ذلك الكتاب الذي اتخذ حينها مصطلحاً جديداً (الجيوسياسية) والذي يفترض -بسبب طابعه التركيبي- استدعاء عدد كبير من العلوم، فيقول عماد حاتم المترجم لهذا الكتاب: «إذا كانت الماركسية وليبرالية آدم سميث تطرحان مقولة (الاقتصاد مصيراً) فمقولة الجيوسياسية هي التضاريس الجغرافية مصيراً».
فـ»من وجهة نظر ديوغين -في كتابه هذا- أن الجغرافيا والمدى المكاني يلعبان فيها الدور الذي تلعبه النقود والعلاقات الإنتاجية».
وما نلمحه في ثنيات هذه المقولة هو العودة إلى التاريخ، والعودة للماضي والتراث والهُويات، وذلك على النقيض من العولمة، وذلك في ثبوتية مسألة تفسير الماضي والتمسك به والحفاظ عليه، حينما تحتوي أفكاره هذه على أن يفترض أن الجغرافيا والمكان تنتهي الخطوط المؤسسة للوجود البشري. ومن هنا كانت رؤيته بأن الجيوسياسية هي آفاق المستقبل في تنظيم الحاضر وتصميم آفاق المستقبل -على حد قوله-، وبذلك حدد وجود الإنسان بحدود وتضاريس المدى المكاني، بل وجعل الإنسان نفسه هو العنصر الأساسي في فلسفته الجيوسياسية.
فقد ربط الإنسان بمكانه، وبيئته وحدوده الجغرافية فهو المحَدَّد -أي الإنسان- بحدود المدى المكاني وعلى ذلك يستعيد استقلالية الأمكنة وهو ما يؤكده حاتم بأنها التجليات الكبرى للإنسان كالدول والإثنيات والثقافات والحضارات الكبرى وما إلى ذلك.
إن ذلك هو ما دعانا لتأليف كتاب «الجزيرة العربية.. الهوية.. المكان والإنسان» والذي شرعنا في تأليفه منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً عندما وجدنا طغيان النظرية العولمية، وهو توجس على الشخصية العربية وهويتها من الذوبان في بوتقة العولمة مما أخرجه لنا كتابنا البحثي والتحليلي نتيجة مهمة للغاية وهى أن الإنسان هو العنصر الأساسي والمؤثر والباعث للتاريخ والحضارة وليس كما دأبت النظريات والدعوات السابقة بأن الإنسان ابن بيئته.
إن ديوغين قد استحدث هذه النظرية لتعمل على نطاق واسع -ليس ببعيد من إصداره إياها– على التضاد مع نظرية التخطيط الكوني (العولمة) والاحتفاظ بالهويات والقوميات حسب موقع الإنسان من جغرافيته التي يحددها هو بنفسه وبحسب موطنه ونشأته وهويته ولغته وعقائده وما إلى ذلك.
فيقول المترجم «لهذا السبب يؤكد المؤلف (ديوغين) على أن الجيوسياسية –هذا العلم الجديد- هي وجهة نظر السلطة، وهي علم السلطة ومن أجل السلطة. ويكشف تاريخها بطوله على أن من عكفوا على دراستها كانوا دون استثناء ممن شاركوا في حكم الدول والأمم أو من يهيئون أنفسهم للقيام بتلك الأدوار. فهي تُمثِل في العالم المعاصر «دليل رجل السلطة» وبكلمة أدق هي كتاب السلطة يقدم ملخصا ينبغي وضعه في الحساب عند اتخاذ القرارات الكونية المصيرية، كمقعد التحالفات وشن الحروب، والقيام بالإصلاحات أو الإجراءات الاقتصادية والسياسية على مستوى واسع»، ولذلك قال ديوغين إنها (علم الحكم).
وفي هذه النظرية اختلاف كبير عما سبقها من نظريات غربية مثل الإثنية والعرقية والطبقية، حيث اختزلها في الصراع بين الكتلة الصلبة (اليابسة) والكتلة السائلة (البحار) في استعراض الصراع الكوني إشارة إلى ذلك الصراع بين القوتين القوة البرية أو اليابسة وهي الاتحاد السوفيتي والعالم الغربي الذي يسميه الأطلسي (القوة البحرية) هاتان القوتان اللتان خاضتا ذلك الصراع على مدار الثلاثين عاما أو تزيد.
وكأن ديوغين هنا يريد أن يثور على ما هو وضع قائم بالفعل متطلعا إلى ما هو الوضع المحتمل؛ فمما لا شك فيه -وهو أستاذ ومنظر سياسي وفيلسوف- قد لاحظ تلك الذوبانات بين الهويات أو قد تكاد في ضوء الفلسفة الكونية بعد سقوط حائط برلين وسيادة أحادية القطب، ومن هنا أراد أن يستعيد العالم استقلاليته من وجهة نظره؛ فلم تكن نظريته هذه «وقبل أن يشرع في شرح هذه الأطروحة الجديدة في كتابه يؤسس لذلك بمناقشة فكرة صميمية مؤداها أن الصراع الإنساني أمر طبيعي مركوز في صلب الوجود الكوني»، أو قل العالمي إن جاز التعبير، وهو بذلك يريد الخروج من دائرة القطب الواحد. وهذا هو مقصد المؤلف الذي يرى «أن هزيمة القوة البرية (بانهيار سور برلين) ليست إلا ظاهرة مؤقتة تعود الأوراسيا بعدها إلى رسالتها القارية التي تتخذ صبغة جديدة تأخذ في الحسبان جميع العوامل الجيوسياسية الجديدة وتحقق انتصارها، وهذا ما يحاول المؤلف تأكيده».
ومع تبني الاتحاد السوفيتي لهذه الأطروحة وبتدريسها قي الأكاديميات العسكرية وجدنا اندلاع هذه الحروب التي نشهدها اليوم بين قوتين؛ القوة الروسية وهي ما أسماها ديوغين عفوية البر (الثابت الصلب)، والقوة الغربية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي وأمريكا والتي أطلق عليها في كتابه عفوية البحر(السائل الجار) أو الأطلسي، وكأن العالم في يومنا هذا لا يضطرم من أجل أوكرانيا فحسب، بل من أجل الدفاع عن بقاء الاستئثار بالقطب الواحد من جهة والعودة للهويات والقوميات والدول المستقلة من جهة أخرى.




http://www.alriyadh.com/1987670]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]