انخفض عدد سفن البحرية البريطانية بين عامي 1914 و1928م، بالطبع ترافق ذلك مع تقلص أعدد الضباط وضباط الصف والعاملين على ظهر السفن، لكن عدد الموظفين الإداريين لم ينخفض؛ بل تضخم!
أول من لاحظ ذلك هو الروائي التاريخي "سايرل نورثكوت باركنسون"، الذي كتب في مستهل مقالة ساخرة بصحيفة "الإيكونيميست" عام 1955م: "يُلاحظ عادة أن العمل يتضخم لكي يملأ الوقت المتاح لإنجازه"، هذه الفكرة اللامعة تطورت لتعرف لاحقاً باسم "قانون باركنسون"!
ضرب "باركنسون" في مقالته مثالاً آخر بعجوز قد تقضي يوماً كاملاً لكتابة رسالة لابنة أختها، بينما تستطيع كتابتها في دقائق، لأنه ليس لديها ما يشغل يومها، وهو ما نراه يومياً ليس فقط مشاغلنا اليومية البسيطة التي تتمدد ويتأخر إنجازها، بل حتى على مستوى مهام العمل، وهو ما ألمسه شخصياً كل أسبوع حين كتابة مقالي للصحيفة، فالمقالات التي أحدد لها وقتاً لإنجازها، غالباً ما أسلمها قبل الموعد المحدد، بينما تلك التي يتمدد وقتها؛ حتماً أتأخر في التسليم!
نعم العمل سواء كان معقداً أو تافهاً يتمدد حتى يملأ الوقت المتاح، فنحن نميل لاستهلاك كل الوقت المتاح لأداء أي مهمة، حتى لو كانت تحتاج وقتاً أقصر، لذا نجد دوماً أننا نعمل باجتهاد أكبر حينما يكون الوقت المتاح ضيقاً، والعكس صحيح حينما يتمدد الوقت، نقع في أشراك التأجيل والتسويف والتفاصيل الفرعية ووهم الكمال!
أستاذ علوم الأنظمة بجامعة فيينا استطاع تحويل قانون "باركنسون" إلى نموذج رياضي، بعد أن لفت نظره ما حدث في كلية طب جامعة فيينا عام 2004م، حينما استقلت عن وأصبحت جامعة لوحدها، إذ ظل عدد علمائها ثابتاً، بينما زاد تضخم عدد الإداريين من 15 إلى 100 إداري! استنتج أن كلما زاد عدد الموظفين والمسؤولين الإداريين بنسبة 6 % فإن المنظمة في طريقها نحو الفشل عاجلاً أو آجلاً، لأن ذلك يعني تعاظم البيروقراطية وتراجع الإنتاجية، كون تركيز الموظفين يكون على الشؤون الإدارية وليس على المهمة الأساسية!
تؤكد الدراسات التي أجريت بعد عقود من مقالة "باركنسون" أننا نميل بالفعل إلى إهدار الوقت، وقضاء مدد أطول مما ينبغي في إنجاز المهام، وبالذات إذا لم يوجد إطار زمني محدد.
بالطبع ليس تحديد إطار زمني ضيق لإنجاز المهام هو الحل، لأن ذلك يؤدي غالباً إلى إنجاز عملٍ ناقص غير متقن، ناهيك عن خسارة أشياء مهمة حتى نستطيع إنجاز مهمة محددة! بل تقسيم المهام إلى مهام أصغر وتحديد فترة زمنية مناسبة لإنجازها، وهو ما يساعد على خفض درجة التعقيد وبالتالي تسهيل تأديتها ضمن الإطار الزمني المتوقع، مع ضرورة وجود هامش زمني للحركة.
لم يهدف "باركنسون" السخرية من المسنّة التي تستغرق وقتاً طويلاً لكتابة رسالتها، لكنه استطاع اختيار مثال يلخص قدرتنا على التحكم في أوقات إنجاز الأعمال متى ما أردنا ذاك!




http://www.alriyadh.com/1990274]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]