لا يتحدث النقاد كثيراً عن المنهج الاستقرائي، وربما يراه البعض منهجاً دخيلاً، أو أنه منهج علمي فقط، أو فلسفي فحسب، مع أنهم يطبقونه كثيراً في مواطن مختلفة من أبحاثهم، وتجاربهم، واشتغالاتهم النقدية، ولكن بطريقة أخرى، وبنعوت مختلفة، كالمنهج الوصفي مثلاً، والتحليلي، والفني، والموضوعي، والتجريبي، والمقارن، وغير ذلك من النعوت التي قد يصح جمعها تحت مظلة (الاستقراء)، ولا سيما إذا علمنا أن الاستقراء يشير إلى التتبع، والتركيز على الخاص للوصول إلى العام، وقد جاء في (المعجم الوسيط): «استقرأه» طلب إليه أن يقرأ». وجاء فيه أيضاً: «الاستقراء: تتبع الجزئيات للوصول إلى نتيجة كلية»، ومن هنا كان الوصف، والتحليل، والتجريب، والمقارنة، ونحوها، أدوات إجرائية تنضوي تحت المنهج الاستقرائي الذي ما زال غائباً عن النقاد في تسميته، حاضراً في شكله وقواعده، وهو ما يجعلنا بحاجة إلى إعادة النظر فيه، وبخاصة أن مناهج النقد المعاصرة تستمد مادتها من مصادر علمية، ومنابع فلسفية.
لقد اصطدم النقاد والدارسون في ميدان الأدب والنقد كثيراً بموضوعات أخضعوها لأدوات إجرائية خلعوا عليها لقب المنهج، وهي ليست من ذلك في شيء، وكم من موضوعات نفيسة ضاعت في خضم مناهج عقيمة، ولو عاد أولئك النقاد والباحثون إلى الأصول التي تستقي منها تلك المناهج طاقتها لغيروا من وصف دراساتهم، وحولوها من الأداة الإجرائية إلى الغاية البحثية، وربما كان السبب في ذلك عائد إلى بعض الكتب التي ألفت في مناهج النقد؛ فإن كثيراً من تلك المؤلفات تتحدث عن المناهج النقدية السياقية والنسقية، (الداخلية والخارجية)، لكنها تضرب صفحاً عن هذا المنهج الاستقرائي، فَيُدسّ ضمن ما يطلقون عليه: المنهج الوصفي، أو التحليلي، أو ما شابه ذلك، مع أن هذا المنهج الاستقرائي من أقدم المناهج العلمية، وأشملها، فهو معروف منذ عهد أرسطو الذي وضع أسسه، وأركانه، فهو منهج علمي ذو مشارب فلسفية؛ ولهذا أظن بأن هذا المنهج العلمي من المناهج التي همّشها النقاد وأهملوها، فلم يلتفتوا إليها.
إن المنهج الاستقرائي يمكن أن يفيد منه النقاد، ودارسو الأدب عموماً، ويمكن من خلاله الوصول إلى نتائج تخدم غايات الأدب والنقد، وقد يصح أن يوضع هذا المنهج في منزلة وسطى بين المناهج النقدية: النسقية، والسياقية، وتحديداً في تلك المنطقة الخاصة بالمناهج العلمية، يستوي في ذلك أي منهج يخدم الأدب ونقده مما هو ليس من صميم المنهج الداخلي (النسقي)، أو الخارجي (السياقي)، وعندئذ يصبح المنهج الاستقرائي مؤسِّساً لمناهج نقدية أخرى قد تطرأ فيما بعد، سواء أكانت ذات أصول وامتداد، كالأنثربولوجي، والأركيولوجي، أم أخذت ملامحها تظهر اليوم كالمنهج البيني مثلاً، الذي أخذ يفيد من بينيات متعددة.
إن الأدب اليوم أحوج ما يكون إلى استقراء نقدي عام، يقوم بعرض التجارب، ووصف الظواهر، وتحليلها، واستنباط المخبوء، والكشف عن المتواري، والبحث في القديم، ومقارنته بالحديث، وعقد الموازنات، وتقديم الاستدلال، ومحاولة الاقتراب من الحقائق، وتلمس الواقع، والوصول إلى الجديد، وكلما كان الأمر بعيداً عن الإطارين: النسقي (الداخلي)، والسياقي (الخارجي)، صار المنهج إلى الاستقراء أقرب وأدق؛ ومن هنا فإن الأجدى استعمال هذا المنهج، وتوظيفه في الحقل الأدبي، بديلاً عن المناهج الفضفاضة ذات الاتساع الإجرائي، كالوصفي، والتحليلي، والفني، والمقارن، والموضوعي (وليس الموضوعاتي)، وما شابه ذلك من الأوصاف التي تخلع على المنهج.




http://www.alriyadh.com/1992461]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]