« الحاضر .. تاريخٌ مؤجّل ..!»

مازلت بهويّتي القروية القديمة منحازًا للتاريخ، وقد اعتقدت دائماً أن القرويين أكثر تعلّقاً به، ربما لأنهم يرون في ملامح الحياة فيهم تاريخاً كلما قاربوا أو انفتحوا على مدن الحاضر وبوابات المستقبل، ومن هذه الهوية أعود بين حين وآخر لموروثنا التاريخي القديم أفتش في نبوءات الأمس عن تفسير اليوم أو حتى شذرات من التنظير له أو عليه، لكن هذه العودة بين حين وآخر تنفق وقتًا وجهداً كبيرين كي أستخلص ما أريد من بين ركام الكلام.. لا سيما في الشعر العربي القديم الذي ظل دائماً مرجعية تأريخية وتوثيقًا فنّياً لأحداث القصائد وحيثياتها، ولا شك أن لكل عصر هويّته ولغته وحتى أسلوبه في التنظير للأحداث أو استقرائها.. لهذا يضيع غالباً ما نبحث عنه بين زحام ما لا ندركه أو نفهمه من حشو وزيادات وتهميش لما يهمنا اليوم...
ومن هنا دائماً دعوت المنشغلين بالتراث الشعري القديم إلى تخليص حاضرنا من ماضيه، إلا بما يعنيه وما يفهمه وما يدركه، أي أننا بحاجة لاستخلاص تلك البقع الضوئية المعاصرة المواربة غالباً خلف أبواب عصرها ومكوّناته وآليات التنظير فيه ...
فلو أخذنا على سبيل المثال إضاءات المتنبي في الوجود من بين زحام متطلبات الشعر وآليات حضوره في عصره، لخرجنا بمفكر عظيم ومنظّرٍ قد يتجاوز الشعر للفلسفة والحكمة لصياغة المستقبل.. وعلينا أن نتلقّاه اليوم بهذه الهوية التي نحتاجها، وفي جانب أبعد وأعمق أظننا بحاجة إلى قراءة الحرب مثلاً في معلقة زهير بن أبي سلمى، ففي أبياته حولها ما يعيننا على تجنب كوارثها التي نحياها، أو حتى على الأقل فهم ما نحن فيه اليوم بسببها:
وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ
وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ
مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً
وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ
فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا
وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ
إن دراستنا لموروثنا القديم كفنٍّ خالص بمكوناته وحيثياته وعصره، أوجد بلا شك غربة نوعية بيننا وبينه أدّت إلى مقاطعته، بل إنها بلغت في بعض الأحيان حد السخرية منه نظراً لمفارقات العصور واختلاف الأزمنة، لهذا علينا التفكير الجاد في تخليص تلك البقع الضوئية من شوائب عصورها لتكون فاعلة في تفكيرنا اليوم، ومؤثرة في قراراتنا وفهمنا لحاضرنا، فتاريخنا الشعري على الأقل لم يكتفِ يوماً بالعظة أو العبرة أو حتى المحاكاة.. لكنه بقوة نبوءاته واستشرافها ساهم بشكل أو بآخر في قراءة ما نحن عليه اليوم ولا شك أننا بحاجة إلى استيراد تلك القراءات بعيدًا عن تلك الهوامش التي أدت إلى هذه القطيعة معها.. وبالفعل آمل من القائمين على مناهجنا الدراسية لاسيما في التعليم العام تبني هذه الرؤية المعاصرة حينما يقرّون التاريخ حكاية للعظة والتسلية فقط، عليهم أن يقدّموه لنا فنّا وخبرة وتجربة ..حين قدموه لنا حروبا وصراعات وممالك تتقاتل فيما بينها، هذا غير الأبعاد الأيدولوجية والحركية التي ظلّت توجه التاريخ وتحرّفه ..حتى بتنا موقنين في لحظة شك بأن : التاريخ يكتبه المنتصرون ..!
فاصلة :
كل تاريخنا جملة
فعلها الآن ماضٍ .. وفاعلها شاعر مستتر ..!




http://www.alriyadh.com/1993548]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]