تتكرر أنماط ابتكارية بحيث يمكن رصدها لاستخدامها للتنبؤ بالابتكار مستقبلًا أو التخطيط له. ويمكن استقراء الأنماط الابتكارية من منتجات معاصرة بصفتها مخرجات لها. أول الأنماط هو الابتكار الخالص الذي يبدو لأول وهلة خرج من لا شيء. الابتكار الأول الذي لم يسبق إليه ولم يخطر لأحد ببال. الابتكار الآخر هو المتفرع من الابتكار الأول، فهو لاحق له وعالة عليه كما يقال، ومن النوعين تمتد شجرة متفرعة عظيمة الأغصان.
الابتكار الأول، إذا اتفق عليه، يأتي بسيطاً بدائياً كما لو كان لعبة أقرب للهزل من الجد. الطائرة الأولى التي صنعها الأخوان رايت طارت 12 ثانية فقط أول مرة. للناظر إلى التجربة الأولى دون علم بالتفاصيل التقنية سيحكم على التجربة بالفشل. للابتكار الأول إرهاصات تسبقه ربما شوشت عليه من حيث أسبقيته أو أهميته. فقد سبق الطيران محاولات كثيرة كان أكثرها جدية المنطاد الذي سبق تجربة الأخوان رايت بمئتي سنة تقريباً.
لا يجاب عن التساؤلات الأولى التي تواجه الابتكار بسهولة، مثل الجدوى الاقتصادية. ولعل الغموض الذي يرافق الابتكار في بداياته هو من دلائل فاعليته. يكفي أن نعرف أن التقنيات الطبية كالأشعة بأنواعها جاءت من مكتشفات علمية لم يكن في حسابها أي جدوى اقتصادية عندما اكتشفت، بل إن بعضها اكتشف مصادفة. فكلما كان الابتكار جديداً، صعب التنبؤ بمستقبله القريب أو البعيد.
إضافة إلى الغموض، فإن من خصائص الابتكار الأول الركاكة. يغلب على الابتكار الأول أن ينفذ بأدوات بسيطة نظراً لقلة الإمكانات. كما أن الحرص على تحقيق الهدف الرئيس من الابتكار يصرف الاهتمام بعيداً عن الإضافات الشكلية التي لا تضيف إلى فاعليته شيئاً يذكر. فقد كان الأخوان رايت على علم مسبق أنهما لن يستطيعا الطيران مسافة طويلة بالطائرة، لكنهما كانا يعلمان في الوقت نفسه أن المسافة القصيرة التي ستقطعها الطائرة كافية للدلالة على نجاحها.
لا يرافق الابتكار الجديد غموض في الفكرة أو المستقبل فقط، إنما في جدتها أيضاً. فمن النادر أن يكون الابتكار منفصلاً عن محاولات سابقة، مما يصعب عادة التفريق بينها. فإذا كان المنطاد يسافر مسافات طويلة واختراع الطائرة لا يقطع أكثر من مئة متر بأجنحته العريضة، فإن الفارق بينهما من حيث الفكرة ليس كبيراً، مما دفع بفكرة المنطاد الطائر الذي شاع في ثلاثينات القرن العشرين حتى أثبت فشله بحوادث كثيرة.
من المفاجئ أن يكون الابتكار الأول جديداً في عيون اللاحقين وليس في عيون المعاصرين. يرى المعاصر الابتكار وهو يبحث عن مرجعية للمقارنة فيجدها ولو كانت بعيدة، كأن يرى المراكب الطائرة ولا يفرق بين وسائل الطيران. مع الوقت ينفرد الابتكار الأنجح بالجدة للناظرين إلى الماضي بعيون حاضرهم، فيغيب عنهم أن معيار الفرادة والجدة نسبي ويتفاوت الحكم عليه مع كل عصر.




http://www.alriyadh.com/1995927]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]