هذا النوع من الحرب الباردة المرتبط بالتقنية سوف يدخل العالم إلى مرحلة مختلفة قد تتفوق فيها فكرة العزلة التقنية لكل دولة، ولذلك فقد تجد الدول نفسها مضطرة إلى إنشاء منظومتها التقنية المستقلة في محيطها الجغرافي غير المرتبط مع الآخرين..
الأمن القومي الأميركي هو الحائط الأكبر الذي يتم من خلاله تصعيد المخاوف خاصة في الموضوعات التي يتم تقييمها على أنها يمكن أن تشكل خطراً مستقبلياً على أمن أميركا، فخلال عقود طويلة مارس البيت الأبيض دوره لتقييم حالة الأمن القومي الأميركي، وفي الأسبوع الماضي فرض البيت الأبيض وعلى جميع الموظفين الفيدراليين ضرورة حذف تطبيق وسائل التواصل الاجتماعي المملوكة للصين من الهواتف المحمولة الصادرة عن الحكومة، وقد سعت حكومات غربية أيضا إلى مشاركة أميركا القلق نفسه، وهي اليوم إما قد تكون حذفت التطبيق من أجهزة الحكومة أو أنها في الطريق إلى ذلك، وكل ذلك يحدث لأن هناك حالة قلق من التجسس المعلوماتي، وهنا سؤال مهم يقول إلى أي مدى سوف يرفع هذا الإجراء قلق الشعب الأميركي أو غيره من الشعوب التي سوف تحظر دولها التطبيق في أجهزة الحكومة.
اتفق الكونغرس والبيت الأبيض والقوات المسلحة الأميركية وتقريبا أكثر من نصف الولايات الأميركية على حظر تطبيق تيك توك، ويبدو أن الصراع السياسي عالمياً يضيف التقنية كشكل جديد من الصراع بجانب الجغرافيا والتاريخ، التكنولوجيا اليوم تضيف نفسها إلى مواد التنافس السياسي الأخطر، فعليا نحن أمام مصطلح جديد هو (تكنوبولتيك) أي السياسة التقنية، حيث تبدأ الدول في تصعيد مخاوفها من تجسسها على بعضها، وهذا ما سوف يمنح العالم الدخول إلى مسار تنافسي جديد قد يساهم في تقليص فكرة العولمة، فإذا كانت الدول سوف تمنع التطبيقات ذات الصفة العالمية وفقاً للخوف من التجسس والقلق على أمنها القومي فإن ذلك سوف يذهب بهذه التطبيقات إلى مسار الاختفاء من الوجود.
الحكومة الصينية علقت على خبر حظر تطبيقها في أميركا بأنه قلق أميركي، واستخدام غير مناسب، بل يشكل إساءة لاستخدام سلطة الدولة، وتدرك الصين أن كبرى شركات التقنية الأميركية العاملة في الصين هي على وشك المغادرة بسبب قانون الخصوصية الصارم في بكين الذي يحدد كيف يمكن للشركات جمع البيانات وتخزينها، وهذا يطرح سؤالاً مهماً يقول ما مخاوف أميركا حول التيك توك؟ أميركا قلقة بشأن الشركة المالكة للتطبيق وهي شركة (ByteDance) وأنها يمكن أن تشارك البيانات مع الحكومة الصينية، فالصين أصدرت في العام 2017م قانوناً يفرض على الشركات العاملة في الصين إعطاء الحكومة أي بيانات شخصية ذات صلة بالأمن القومي الصيني.
يبدو أن قلق تسريب المعلومات إلى جهات أخرى يشكل المعضلة الرئيسة التي تقف خلف هذا الموقف الأميركي، بالإضافة إلى أن تطبيق تيك توك يقول عنه الأميركيون إنه يضر بالصحة العقلية للمراهقين، فما يقارب من ثلثي المراهقين في أميركا يستخدمون التطبيق وفقاً لمركز بيو للأبحاث، وهو مركز أميركي، حرب المعلومات هي المسار الأكثر شراسة في نوعية الحرب الباردة التي نشهد مؤشراتها هذه الأيام بين الصين وأميركا، ويبدو أن هذه الحرب تسعى إلى تجميد تطبيق تيك توك في مرحلة مهمة ومتقدمة من مراحل العولمة، هناك سؤال مهم يجب أن يطرح أيضا فماذا عن الشركات التقنية الأميركية الأخرى التي تجمع المعلومات نفسها عن شعوب أخرى خارج أميركا، وماذا عن دول العالم الأخرى المستهلكة للتقنية الغربية والصينية، هل من دور لهذه الدول؟!
هذا النوع من الحرب الباردة المرتبط بالتقنية سوف يدخل العالم إلى مرحلة مختلفة قد تتفوق فيها فكرة العزلة التقنية لكل دولة، ولذلك فقد تجد الدول نفسها مضطرة إلى إنشاء منظومتها التقنية المستقلة في محيطها الجغرافي غير المرتبط مع الآخرين، ولعل الصين هي أول من تنبه إلى هذه القضية، فهي لا تشترك مع العالم في التطبيقات العالمية، فمثلاً لا يوجد في الصين تطبيق تويتر، كما لا يمكن تشغيل أي من التطبيقات التكنولوجية الغربية في الصين.
العولمة تستعد اليوم لمواجهة سوف تؤدي في النهاية إلى سباق تسلح تقني جديد، ما يعني أن حدود الدول لم تعد هي الحدود الجغرافية بل إنها اليوم هي الحدود المعلوماتية، حيث يستوجب على الدول حماية أمنها المعلوماتي أكثر من أي شيء، وهذا ما ساهم في منح الأمن السيبراني الفرصة للتفوق كعلم ومهنة حديثة.
الأسباب الأميركية خلف حظر تطبيق تيك توك أسباب أمنية بالدرجة الأولى، وهي ليست على المستوى الفدرالي فقط، بل هناك محاولات لمنع هذا التطبيق على مستوى أميركا بأكملها، ومن الطبيعي أن ردة الفعل الصينية سوف تبدي موقفاً مضاداً من هذا الفعل، وهذا يعنى تماماً أن حرباً باردة قد بدأت فعلياً وقد تتطور إلى مساحات تقنية مؤثرة على التنمية والتطور.




http://www.alriyadh.com/2001014]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]