المسرح هو الركض في فضاءات الطبيعة ببساطة وبدون عناء، فوعي الإنسان بعلاقته المتلازمة والمتماسة مع الطبيعة هو ما يكسبه تلك البهجة المستفيضة التي لم تستطع أن تكون محددة أو محدودة!..
لم نكن في يوم من الأيام نذهب إلى المسرح متحفزين ومتمنطقين بما تعلمناه من قواعد فنية، وأدبية، وعلمية، وفلسفية، ونظريات معرفية؛ بل نذهب إليه بصفاء ذهني متجرد من كل تحفزات نقدية متحذلقة، وبلا ترصد له، فيفصل ذلك الوهج الذهني عن مدارات خياله التي مكانها المسرح، وبلا شوائب مترسبة على هوامش الذاكرة، أو فهم مسبق مصادر عليه؛ وكأننا ندلف إلى ردهاته بُلهاء أميين لا نفقه فيه شيئاً؛ في حالة أقرب ما تكون للبدائية الفطرية، ذلك أنه مكان الاسترخاء والمتعة والتوحد مع الذات والتجرد من كل الأهواء، إنه مكان الحدس الصوفي البهيج والمبهج بكل ألون الطيف.
وهنا يكمن السر في المتعة ويكتمل الوعي والفهم حينما يسدل الستار، وهذا ما يجعلنا دائماً في محاولة دؤوبة في أن نتلامس معه لنحصل على الإثارة من عمل ذي أبعاد مكتملة منحوتة، نحت مادي، ونحت معنوي -نحت ملموس ونحت محسوس-، يختلطان ليشكل كلاهما نحتاً ذهنياً متسامياً من الوجد المنتج لحدس صوفي بين متلازمة المعطى والمعني.
وإذا ما قيل أن المشاهد لا يستوعب في العادة النحت ومحاولة جمع المكعبات والمثلثات لإعادة ترتيبها بهذه الوسيلة ولتكتمل الصورة، إلا أنه يبدو منجذباً تجاهه، لما أثاره فيه من مشاعر وجدانية، فالوجدان أضحى في الفن بعداً خامساً وارتبط بالعقيدة فأضفى عليها خاصية جديدة و هو ما نطلق عليه البعد العقائدي أو البعد الخامس.
منذ بدايات المسرح العالمي وبعد أن خرج من عباءة الدين أصبح يعالج مشكلاته الاجتماعية والسياسية يشعر القائمون عليه بحالة من النقص أو عدم الاكتمال، هذا الشعور هو الذي دفعهم نحو التجديد والابتكار، فهناك حالة دفينة بشيء يحرك الأحاسيس والوجدان، فانتفاء القدر الإغريقي في كتابات الكلاسيكيين الجدد جعلهم يبحثون عن قوى أخرى تحرك الأحداث والشخصيات، فجاءت أفكار مسرحياتهم مستمدة من آلهة وأبطال الأساطير الإغريقية ولكن الصراع أخذ فيها بعداً آخر، فأصبح بين العاطفة والواجب بدلاً من التصارع البشري مع الآلهة، ومثلما حاول كتاب اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد الإيحاء بأن هناك قوى مسيطرة تنظم حركة الصراع وأسموها القوه القدرية أو "الأنا نكى"، حاول الكلاسيكيون الجدد الإيحاء بها أيضاً ولكن بشيء من العدالة الشعرية، وجعلوا مصير البشر متعلقاً بخطاياهم مثلما نرى في كتابات "راسين" و"كورني" كما أن هذه الفترة شهدت تغييرات جوهرية استمد منها العالم روح التجديد والابتكار، فنرى "كورني" في مسرحية "السيد" يضرب بالقواعد الكلاسيكية عرض الحائط ليثير الرأي العام في ذلك الوقت، ويحدث ضجة فكرية، حتى أن الأكاديمية الفرنسية أعدت لجنة بقيادة الأديب الفرنسي "شابلان" لتقديم تقرير مفصل عن مسرحية "السيد" أدانت فيه "كورني" بما أسموه الشطحات الفكرية والتمرد، الأمر الذي دعا "كورني" لكتابة بعض المقالات دفاعاً عن مسرحيته ويفند فيها رأي الأكاديمية، ولقد أصبحت هذه المقالات وهذا التقرير أحد أبرع المراجع النقدية. والذي يثير التساؤل، ما الذي أوحيى إلى (بييركورني) الخروج عن هذه القواعد الكلاسيكية، إنه ذلك الإحساس بالنقص وعدم الاكتمال، وما الذي يدفع كاتباً مثل لويجي برانديللو أن يحاول جذب المتفرج إلى داخل الواقع من خلال التقاطع مع بعض مستويات الحقيقة، ويصبح المتفرج جزءا من تكعيبية الطرح الفكري، إنه يجعل المتفرج جزءا من الواقع المسرحي المعاش في لعبة المسرح داخل المسرحية، فلم يكن يشعر برانديللو بهذا الدفء الذي يتواصل من خلاله مع الجمهور، وبعيداً عن الخواء الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية نجد بريخت يقدم لنا الملحمية والتي تسعى إلى دمج المبدع والمتلقي في حالة وجدانية واحدة أو في حالة تفاعل جمعي، إنهم جميعاً يشعرون بهذا الإحساس بعدم الاكتمال الذي حاول كل رجال المسرح الغربي البحث عنه ومحاولة الوصول إلى حله.
ذلك أن الوعي البشري يشعر أنه في تداخل سيال وفي وحدة بهيجة مع المسرح وهو ما يخضع العالم لروحيته المستفيضة، لأن المسرح هو الركض في فضاءات الطبيعة ببساطة وبدون عناء، فوعي الإنسان بعلاقته المتلازمة والمتماسة مع الطبيعة هو ما يكسبه تلك البهجة المستفيضة التي لم تستطع أن تكون محددة أو محدودة! بل كانت كأنها تلعب وتتمتع ببراءتها بسلطة على الأشياء غير مثقلة نفسها بردود الفعل حول مدى التوافق بين تصوراتها والأشياء الحقيقية، فكل الأفعال التي تتم بصورة تلقائية عفوية وفطرية ليست إلا بحثاً غير مقصود عن كمال الصورة واتساق النسق الداخلي للإنسان وإيقاعه مع الحياة.
وفي يوم تتويج المسرح على منصة يومه العالمي لنا أن نتساءل ونعيد تلك الحمى المعرفية الفلسفية والفنية من التساؤلات عن: هل اكتملت الصورة في يوم المسرح العالمي؟
قد يبدو أنه تساؤل ساذج وسخيف تجاه تاريخ المسرح بعمق الزمن! لكنه في حقيقة الأمر يسوقنا إلى إجابة قاطعة وهي: لا.
ذلك بأنه لو كانت الإجابة بالإيجاب لتوقف نهر المسرح عن الجريان، ولتوقف ذهابنا وتعثرت خطواتنا للمسرح، لأنه حين يكتمل السؤال نفقد نحن بدورنا الشغف بالمتعة والترقب والدهشة!
http://www.alriyadh.com/2005253]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]