إن تاريخ العمارة يعكس هذه الجدلية التي تحث على اكتشاف ما أطلقنا عليه "النواة الإبداعية"، ومن المتفق عليه أن حضور المادة، حتى في المنتجات الثقافية غير المادية، يمثل شرطاً أساسياً للإبداع والابتكار..
يقول هيغل "إن أول تعامل للإنسان مع المادة كان من خلال العمارة". ومن المتفق عليه أن إحدى الحاجات الأساسية التي تنبه لها البشر منذ بدء الخليقة هي حماية النفس، ولم يكن هناك خيار أمامهم سوى اختراع "العمارة" من أجل تحقيق هذه الحاجة، ويبدو أن هذا الاختراع الذي كان في بدايته مرتبطاً بالحاجة المباشرة تطور وارتبط بعد ذلك بكل مراحل صعود الحضارات البشرية وعمل بشكل مخلص للتعبير عن الرغبة الجامحة لدى الإنسان لبناء هذه الحضارات. ويظهر أن فكرة اكتشاف نواة العمارة الإبداعية وقدرتها على تحقيق ما يطمح له البشر خارج فكرة "الأمن" مثلت جزءاً من جوهر البنية العقلية التي نشأت على ضوئها جميع الاختراعات بما في ذلك أنماط البناء وأساليبه. فمن قول شمس التبريزي "كيف يمكن للبذرة أن تُصدّق أن هناك شجرة ضخمة مخبأة داخلها" نستطيع أن نتصور كل عمل عقل البشر على اكتشاف تلك البذور التي يمكن أن يولد منها أشجار ضخمة. مقدرة البشر على تحديد البذرة التي تصنع كل حرفة وصنعة ورعايتها عبر الزمن وتطويرها مثّلت على الدوام منبع التجديد الذي ميز كل حضارة عبر التاريخ.
الجدير بالذكر أن البذور الأولى التي نشأت منها الحضارة الإنسانية يصعب الوصول لها بدقة، وعندما نقول إن العمارة شكلت إحدى البدايات التي تعامل فيها الإنسان مع عالم المادة فهذا كلام عام، لكن من الواضح أن البداية كانت هي "المادة"، فهي التي ولّدت الأفكار وصنعت مناهج التفكير، ويبدو أن هذه الفرضية لم يُتّفق عليها بشكل كامل، فهناك من يرى أنه لولا وجود الأفكار التي سبقت التعامل مع المادة فلن يكتشف الإنسان البذرة التي يمكن أن تصبح شجرة ضخمة. يفتح هذا الجدل مجالات واسعة للبحث في طرق التفكير ويساعد بشكل كبير على رصد تاريخ الأفكار وكيفية نشأتها، فهل يستطيع الإنسان التفكير بمعزل عن المادة؟ وهل يمكن أن نقول إنه بإمكانية تطور الفلسفة دون تأمل المادة ورصد تحولاتها؟ نحن نتحدث هنا عن "فيزياء الأشياء" والمرتبطة بجميع الظواهر الكونية التي تحيط بنا وتشكل "طبائع الأشياء" التي ترتبط بأسباب واضحة لوجودها. مبدئياً يصعب فصل الفكرة عن المادة وطبيعتها الفيزيائية، وإذا علمنا أن المادة موجودة أصلاً وأن كل ما قام به الإنسان عبر تاريخه الطويل مجرد اكتشاف مقدرة المادة وطور أساليب التعامل معها، سوف نتأكد أن تاريخ الأفكار برمته هو تاريخ اكتشاف طبيعة المادة وتوظيفها.
قبل أيام من رمضان قدمت محاضرة في كلية الآداب بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل حول تطوير منهجية للتعلم من التاريخ، ورغم أن المحاضرة ركزت على التوجه الإثنوغرافي لقراءة لحظات الإلهام والتحول إلا أنها لم تستطع التفلّت من تأثير المادة، فأحد مصادر التطور المعماري هو توفر المادة والقدرة على التعامل معها. وكان هذا المعيار أساساً في جميع مراحل التطور التاريخي حتى اليوم، بل إن توفر المواد كانت سبباً رئيساً في نشأة الإلهام، وإن اكتشاف الحرفيين لسلوك المادة وطبيعتها الفيزيائية مثّل على الدوام البذرة التي نمت منها الأفكار وما نتج عنها من حضارة. ومع ذلك يجب أن أقول إن ما طرحته ليس مرتبطاً بالمادية التاريخية التي ابتكرها "كارل ماركس" والتي ترى أن تطور المجتمعات ارتبط بشكل مباشر بوسائل الإنتاج المادية، والفرق هنا أن هذه الجدلية مرتبطة بعفوية التعامل مع المادة والقدرة على اكتشاف نواتها التي تنشأ منها الحضارة، والعفوية هنا تكمن في اللقاء الأول بين الإنسان وما يحيط به، والكيفية التي استطاع بها أن يصنع من هذه المادة حضارة.
يبدو لي أن تاريخ العمارة يعكس هذه الجدلية التي تحث على اكتشاف ما أطلقنا عليه "النواة الإبداعية"، ومن المتفق عليه أن حضور المادة، حتى في المنتجات الثقافية غير المادية، يمثل شرطاً أساسياً للإبداع والابتكار، هذا يجعلني دائماً أنظر للتاريخ، ليس على أنه مجموعة أحداث، بل هو سلسلة من الأفكار التي نشأت من مقدرة الإنسان على فهم المادة واكتشاف طبيعتها. حتى التدافع الحضاري كان نتيجة للتنافس على من يستطيع اكتشاف طبيعة وسلوك المادة أولاً، ومن يستطيع أن يحتفظ بأسرارها أطول وقت ممكن. يجب أن أقول هنا إن كل ما انتجه الإنسان من ثقافة ومن رموز ومن ممارسات طقوسية كان يدور في فلك العلاقة الأزلية والمتلازمة بينه وبين ما يحيط به من فيزياء، وفي اعتقادي إن تعليم التاريخ يجب أن يتعامل مع هذه الحقيقة المبكرة والمستمرة حتى يتحول التاريخ إلى علم وعمل لا مجرد دروس وعبر.
http://www.alriyadh.com/2005368]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]