وكون العالم ذا مذهبٍ فقهي منزلةٌ عاليةٌ لم يدَّعِ ارتقاءها مئات الأعيان من العلماء خلال عشرة قرون، فمن أفصح عن كونه يصبو إليها من غير أن ينصب السلالم الموصلة إليها فقد تصورها على غير ما هي عليه، ووضع من يُصدِّقُهُ من عوامِّ الناس بمأزقٍ خطيرٍ..
أراد الله لشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون خالدة خاتمة، فمنحها أسباب ذلك، وفي مقدمة تلك الأسباب القرآن الكريم الذي تكفَّل الله بحفظه، فلا يسع أحداً أن يخرم منه أو يزيد فيه، والسنة الطاهرة التي توفرت همم العلماء على خدمتها خدمة غير مسبوقة، ولما كان هذان المنبعان نصوصاً محفوظة محددة، والحوادث متعاقبة والنوازل متجددة اختار الله لاستنباط الأحكام منهما أجلة العلماء، فما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا وفي الأمة فقهاءُ راسخون في العلم يتولَّوْن واجب الفتوى والاستنباط، ثم تُوُورِث هذا الإرث العظيم حتى اقتضت متطلبات الحضارة الإسلامية أن تُفرَّعَ أحكام الشرع وتتناقل بين أقطار الدولة مفصلة حسب النوازل المتجددة والأعراف المتنوعة، فتكلل ذلك بجهود الأئمة، ولا سيما الأربعة المتبوعون الذين عمَّت مذاهبهم نواحي البلدان، وصارت ركيزة من ركائز تراث الأمة، فلا يُستغربُ أن يكون المساس بها مرفوضاً في الأوساط العلمية، ولي مع مكانة المذاهب الفقهية وقفات:
الأولى: من الاستهانة بالإنجازات العلمية العظمى التي يندر وجودها عبر التاريخ أن يدعي طالب علم أنه بصدد تحصيلها مع أنه لا يخفى على طلبة العلم والمشتغلين بالمعارف عدمُ أخذه بالأسباب المفضية إليها، وشدةُ فقره إلى الإمكانات التي تُؤهله لذلك، وهي من ضمن الإمكانات التي لا يُمكنُ أن تُكتم لو وجدت، فدعوى تحصيل الإنجازات المتوقفة عليها لا يعدو أن يكون تقليلاً من أهميتها ووضعاً من شأنها، كأن المدعي يقول بلسان حاله: ما ذلك الشيء الذي تظنونه ميزة إلا درجة ميسورة ليس بين قدمي وبين اعتلائها إلا أن أسعى إلى ذلك، وكون العالم ذا مذهبٍ فقهي منزلةٌ عاليةٌ لم يدَّعِ ارتقاءها مئات الأعيان من العلماء خلال عشرة قرون، فمن أفصح عن كونه يصبو إليها من غير أن ينصب السلالم الموصلة إليها فقد تصورها على غير ما هي عليه، ووضع من يُصدِّقُهُ من عوامِّ الناس بمأزقٍ خطيرٍ؛ إذ لا يسعهم الجمع بين تصديقه وبين تصديق الأمة فيما اتفقت عليه من المكانة الاستثنائية للأئمة الأربعة.
الثانية: الأئمة أصحاب المذاهب لم يَدُرْ في خَلَدِ أحدهم تكوينُ المذهب، ولم يسعَ إليه، ولم يُلوِّح بتمنِّيه ذلك، وحاصل أمرهم أن الله تعالى حباهم من خصال الإمامة في الدين ما رشحهم لهذا، فوفَّقهم لتحصيل العلم المأثور وتلقيه عن ثقات العلماء، وأعطاهم مواهب أخرى يتوقف عليها الاجتهاد وهي ملكة الاستنباط ونصاعة الفكر وفقاهة النفس، فنشأة مذاهبهم بفضل الله تعالى ثم باجتماع آلات الإمامة الفذة لهم، واختيار الله لهم للقيام بهذا الشأن، حتى إن كلاًّ منهم تكلم على أمهات المسائل في جميع الأبواب الفقهية، فلا يُوجدُ فرعٌ فقهيٌّ إلا وله فيه كلامٌ، أو يمكن تخريجه على كلامٍ له، أو إدراجه تحت قاعدةٍ يُفرِّعُ عليها، وكان تلامذتهم من عِلْيَة العلماء، وقد كان من أقرانهم من يتمتع بآلات الإمامة، لكن لم تُسَخَّرْ تلامذتهم للإقبال على علومهم كما حصل للأئمة الأربعة، ومن الجرأة الممجوجة والتسوُّر الصادم أن يتطلع إلى الزمالة لهؤلاء الأئمة من لم ينضمَّ إلى ركب المتفقهة أصلاً، فهل يجهلُ أن من لم يكن جندياً لم يصلح قائدَ كتيبة؟ أنَسِي -وهو الأديب- قول الشاعر:
(مَنْ لم يُقَدْ فَيطِيرَ في خَيْشُومِهِ ** رهجُ الخميسِ فلنْ يقودَ خميسا)
وهل يتجاهل ما تقرر عند العلماء من احترام التخصصات، أو يرضى لنفسه أن يكون كطبيب يتحدث عن تشييد الأبراج، ومهندس يتغنى بإجراء العمليات الجراحية.
الثالثة: شاع جعل التمذهب بمذهبِ أحد هؤلاء الأئمة وسيلةً إلى التحصيل والتدرج في التفقه، ونظاماً يحمي من التشهي والتلوُّن في الفتوى، وديدناً يلهج به أفذاذ العلماء في كل عصر، وبالفقه المنقول عن هؤلاء الأئمة جرى القضاء والفتيا في الدول المسلمة، وحُفظت المصالح، ورُدَّ على المتنطع، وأُتقنت مواكبة التطورات، وبأصوله وفروعه وقواعده يقمع الراسخون في العلم نزوات المتنطعين ومبالغاتهم وتطلعاتهم الساذجة، ومن اتهم الفقه المدون بضيقِ عَطَنِه وقصوره عن مسايرة الحضارة فقد حكم على نفسه بقصور النظر في نصوص الفقه وعدم الأهلية لاستنطاقه، ولا يخفى على المشتغلين بالعلم أن معاملة العلماء للتراث الفقهي المذهبي متفاوتة، فمنهم المتقيد بفروع مذهبه، ومنهم المجتهد صاحب الاختيار الذي يدور في فلكِ مذهبٍ معينٍ، ويختار في رواياته ما وافق الدليل بحسب ما أداه إليه اجتهاده، وقد يجول به اجتهاده في سائر المذاهب الفقهية، ولم يكن قصد هؤلاء مزاحمة المذاهب القائمة، ولا التقليل من شأنها، بل يجلونها ويجلّون أئمتها، فليس المقلل من شأن المذاهب مقتدياً بهم، والحاصل أن المذاهب المتبوعة مظهرٌ يُجلِّي عبقرية علماء الشريعة، ولا يسوغ المساس بها.




http://www.alriyadh.com/2007304]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]