منّ الله علينا بشباب متحمس واعٍ مثقف عالي التعليم والتخصص؛ ومن الملاحظ أن ثمة شكاوى من بعض شبابنا من التضييق عليهم، وعدم وجود أمان وظيفي للغالبية، فبعض المؤسسات بعد تعيين الفرد تدفعه لتقديم استقالته بعد الفترة المحددة تفادياً لزيادة نسبة الراتب..
حينما ترتفع الطائرة بأجنحتها البراقة وكأنها تمزق السماء، وترقد فوق هضاب من السحاب المتراكم، أتأمل حال أولئك السذج الذين أسلموا رقابهم بين قوسي السماء والأرض، ومن بينهما تأرجحات الجاذبية، ونحن لا نملك سوى التسليم لمن بيده الآلات والأرقام والتقنيات والشفرات المبهمة التي لا يفقهون فيها سوى التسليم المطلق ثم الاستسلام للنوم العميق.
أغوص في الداخل هرباً من هول امتداد الأفق ومجهوله، ولعل نصاعة السحب وبياضها على مدى البصر، خاطب ذلك البياض الداخلي لتجليات النفس البشرية وهمومها لتبعث ما كان كامناً في عمق النفس، وتوقظ ما كانت تكبله أغلال الوعي وسلاسل ضجيج الحياة؛ إنها حالة (السوبر وعي) أو ما نسميه بـ"الكوزميك مايند" أي العقل الكوني، أما علماء النفس والفلاسفة فيسمونها حالة الاستبطان، التي هي "حالة من مطالعة النفس من خلال تأمل باطني ينصب على ما يجري في عالم الشعور" كما عرفها العلماء. لقد تزامنت وتفاعلت سباحة الطائرة في الفضاء مع سباحتي أنا في فضاء العقل الكوني، ومن هنا تطفو الأفكار وتتجلى الهموم.
لقد كانت تلك الرحلة بين دولتين عربيتين خارج المملكة وتقترب من أيام العيد، والتي تستوجب أن يقضي الفرد منا أعياده مع أهله وذويه كما تحتمه عاداتنا وتقاليدنا العربية من صلة رحم وعرف وغير ذلك.
ومن هنا كانت الطائرة تكتظ بالعديد من الجنسيات المختلفة، كل يرجع إلى موطنه، فمنهم من كانت رحلته مباشرة، ومنهم من ذوي الرحلات غير المباشرة إلى بلاد أخرى بعيدة.
لقد كانت المسألة التي تناغمت مع دواخل النفس وصفاء الذهن في هذه اللحظة هي وهج محموم بجذوة حب الوطن وأهله، فالوطن ما هو إلا تلك الذوبانات مع الذات وفي جميع الذوات الأخرى، مما يشكل في نهاية الأمر ما يسمى بالوطن، فإذا تضافر كل الحس البشري بين جميع الذوات في ذات واحدة وفي مكان واحد مستقر، كان ذلك منبع النشوة جراء الإحساس بالمواطنة الحقة، ومن هذا المفهوم ندلف إلى عدة أسئلة: من هؤلاء البشر من جنسيات مختلفة والعائدون كل إلى موطنه؟ ولماذا ابتعد هؤلاء ثم يعودون في حنين لا حدود له؟
وسرعان ما تأتي الإجابة المباشرة من عدة أسئلة مباشرة! بأن هؤلاء هم ذوات فردية انطلقت من الجمع الكلي ليعودوا إليه كموضوع، وكأنها تطبيق لنظرية الذات والموضوع، حيث إن الذات في سعي دائم للالتصاق بالموضوع –المتمثل في جنته أو فردوسه المفقود- وهو سبب ذلك القلق الدائم للبشرية منذ خلقت.
إن كل من كان على متن الطائرة هم عاملون في شركات خاصة وعامة انطلقت من بلادهم فحملتهم وحملوها معهم في سياق واحد في نسق جمالي متلاحق.
والحقيقة أن هذا الأمر قد لاحظناه في بلاد كثيرة متقدمة مثل اليابان والولايات المتحدة الأميركية وكذلك مصر وغيرها، حيث إن الشركات الاستثمارية العملاقة حين تمتد إلى خارج الوطن تحمل معها طاقة عمالية كبيرة من نفس الوطن الأم ومن خارجها، وبهذا تخلق نوعاً من الرواج الداخلي والخارجي في النفع العام والتشغيل والنجاح على المستويين وبين البلدين.
ولقد فطنت المملكة لهذا الدور سواء كان على المستوى النفسي والعقائدي والسياسي أو حتى المستوى الاقتصادي ورفاهة الأفراد، فكانت السعودة وإلزام القطاع الخاص بتشغيل السعوديين قبل كل شيء ولو بنسب متفاوتة.
وبما أن الله قد منّ علينا بشباب متحمس واعٍ مثقف عالي التعليم والتخصص؛ فمن الملاحظ أن ثمة شكاوى من بعض شبابنا من التضييق عليهم، وعدم وجود أمان وظيفي للغالبية، فبعض المؤسسات بعد تعيين الفرد تدفعه لتقديم استقالته بعد الفترة المحددة تفادياً لزيادة نسبة الراتب مع الاستمرارية في العمل ثم يؤتى بفرد آخر!
وهكذا تدور العجلة بين صاحب عمل يستثمر الشباب في تسيير أوراقه وما يتحتم عليه قانوناً، وبين شباب يتم الاستغناء عنهم بعد أشهر من استلامهم العمل، ونعتقد أن هذا الوضع لن يستمر سيما وأننا نعيش مسيرة مدهشة في هذا الوطن وتحقيق الرؤى والأحلام في ظل قيادة حكيمة.
كل هذه الخواطر والهدير الداخلي آخذ في التوسع، فيتنقل من طيف إلى طيف، ومن فكرة إلى فكرة، وأنا في حالة من الغوص في كل جوانب المشكلات التي طفت على السطح بفعل هذا الاستبطان الذاتي، ولم يرحمني منه سوى صوت المضيف يحمد الله على سلامة الوصول وربط الأحزمة، فكانت نقاط التلاقي بين الوصول لأهداف منشودة تحققت في رؤية 2030 وما نراه من فعل نهضوي تنويري وحضاري أبهر العالم، وبين ربط الأحزمة حيث العمل الجاد والتفاني فيه وحق المواطنة وحق الشباب ووعي القطاع الخاص بالمسؤولية تجاه هؤلاء وتجاه الوطن.




http://www.alriyadh.com/2007678]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]