الإسراف هدر للمنافع ممقوت، فهو مفسدة تعود على الفرد والمجتمع بالضرر، وهذا الضرر لا يلزم أن يكون آنيّاً ملموس الأثر للعامة والخاصةِ، لكنه موجود تتراكم عواقبه وتترك أثراً سلبياً، وهذا يقضي على ما يظن فيه من المنفعة، ويحول بينه وبين أن يكون محمدة..
خلق الله للناس ما في الأرض جميعاً؛ لينتفعوا به، ويستعينوا بذلك على المعاش، وأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وأمرهم بالإصلاح في الأرض، ونهاهم عن الإسراف في المعيشة، فتَشَكَّلَ من ذلك ومن غيره من أوامر الشرع ونواهيه نظامُ حياةٍ متكاملٌ، يستبين المكلَّف من خلاله كيفيةَ العِيشة المعتدلة التي لا إفراط فيها ولا تفريط، ويتفادى بمراعاة ذلك النظامِ العبثَ بالمعايش، والاستهانةَ بالنعمة، وإذا لم يراعِ الإنسان ما قررته الشريعة في هذا الصدد أوشك أن يقع في هدر الموارد التي جعلها الله قوامَ الحياة، وجعل تحصيلها مرهوناً ببذل الجهود والتعب في تحصيل الأسباب والسهر على التنمية والحفظ، سواء كانت أثماناً أو سلعاً، كما جعل نقصَها وندرتَها وتلفَها خطراً على المجتمعات يهدد وجودها وأمنَها، فتقرر أن التصرف في الموارد على حسب المشروع والمعقول تدبيرٌ لازم وواجب شرعيٌّ، وأن هدرها وعدم المبالاة بها مخالَفة للشرع وظاهرة خطيرة وسلوك غير حضاري ومظهر مستفزٌّ، وإشكال يستدعي تكاتفَ الجهود لحل معضلاته، ولي مع خطورة الهدر وقفات:
الأولى: الإنفاق كغيره من الأمور في مطلوبية التوسط فيه، وذم طرفي القصد منه، وقد مدح الله تعالى عباده بالاعتدال فيه، فقال تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا»، والطرف الأسفل الذي هو التقتير والتضييق على النفس والأهلِ والشحُّ الذميم لا يتنازع العقلاء وأهل المروءات في ذمه وقبحه، ولا يعهد في عرف أوساط الناس وأماثلهم التمدُّحُ به، بل قد يمتعض المتورط فيه إذا وُصف به، ويرى أن الواصف قد ألصق به وصمةً، وإنما يقع اللبس بين القصد المحمود المعتدل وبين الإفراط المفضي إلى هدر النعم والاستهتار بها، ووجه التباسهما في بعض الأذهان أن الإسراف لما كان زيادة على القدر المحمود خُيِّل إلى أولئك أن هذا من قبيل الازدياد الموجِب لمزيد الحمدِ، فيظن أنه إذا كان المنفق باعتدال محموداً فالمنفق المتخطي للحدود أكثر فضلاً وأحمد أثراً، والأمر ليس كذلك؛ ففي الإسراف هدر للمنافع ممقوت، فهو مفسدة تعود على الفرد والمجتمع بالضرر، وهذا الضرر لا يلزم أن يكون آنيّاً ملموس الأثر للعامة والخاصةِ، لكنه موجود تتراكم عواقبه وتترك أثراً سلبياً، وهذا يقضي على ما يظن فيه من المنفعة، ويحول بينه وبين أن يكون محمدة، ويكفي في ذمه أنه من الخصال المنصوص على أن الله تعالى لا يحبها فقد قال تعالى: «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
الثانية: قدرات الناس متفاوتة جداً، والقدر الكافي للفردِ أمر نسبيٌّ شديد التباين بحسب الظروف والأحوال والأشخاص، وتوسعةُ ذي اليسار على نفسه وأهله لا تستدعي بالضرورة أن يهدر؛ لأن وسائل الحيلولة دون إهدار النعمة كثيرة، وأولها تقدير المطلوب قبل الطلب ولو بشكل تقريبي، ثم التعامل معه على وجه يجعل انتفاع الآخرين به ممكناً بصورة لائقة، ثم محاولة إيصاله لمن ينتفع به، ويساعد على اتخاذ تلك التدابير استصحابُ الإنسان للقناعة بأن هدر ما بيده ليس حقّاً مكفولاً له وليس حرّاً فيه، وأنه إذا أسرف فأهدر النعمةَ؛ إما بشرائه فوق ما يحتاج إليه مما يؤدي إلى تلف الفائض، وإما بالمبالغة في استعمال الموارد فوق الحاجة، فقد تعدى على حقوق الآخرين، ولو كانت قيمة المتلفات من خالص ماله؛ لأن من حقوق بقية أفراد المجتمع أن يفسح لهم المجال إذا اشترى ما يكفيه، فلا يزاحمهم إلا فيما يعود عليه بالنفع، فإذا اكتسح ما فوق حاجته وأهدره فقد تعدّى وضيَّق على غيره.
الثالثة: من عدم المبالاة أن يقع المسلم في تعمد الهدر في أي وقت من الأوقات بعد أن يتبين له حكمه الشرعي، لكن الأدهى من ذلك أن يقع منه ذلك الهدر في مواسم العبادات وما يتصل بها من الأعياد الشرعية التي هي عبادات في أنفسها كما أنها أفراح لشكر الله تعالى على إتمام المواسم؛ لأن العبادات وما يتصل بها حقها أن يتحرى فيها فعل ما يُرضي الله تعالى وأن يجتنب فيها ما يسخطه، حتى لا تكون صوريَّة منزوعةَ الروح، فعلى المسلم أن يكون اجتنابُ هدر الموارد عموماً والأغذية خصوصاً من ضمن العبادات التي يأخذ نفسه بأدائها في كل وقت، وبالتشمير فيها في الأوقات الفاضلة، كما يجتنب الهدر في احتفالات الأفراح بالمناسبات السارة بأي مناسبة أقيمت من زواج وتخرج وغيرها؛ فإن هذه النعم إنما هي مِنح منحها الله لعبده، وأباح له أن يفرح بها فرحَ شكر لا فرحَ بطر، فيجب أن لا يصحبها ما يُسخِطُ معطيَها المتفضلَ بها.




http://www.alriyadh.com/2008550]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]