ثمّة هاجسٌ لا يغادرني، ولا أبالغ إن قلت إنه ربما لازم كثيرين امتهنوا الكتابة عمراً مديدًا كما هو شأني معها.. هذا الهاجس يتمثّل في سؤال يبدو وجودياً بالنسبة لي ولمن هم مثلي.. وهو ماذا لو توقّفت يومًا عن الكتابة؟.. وفي كل مرة يداهمني هذا السؤال الغائم.. مطراً من شجن، بينما أقف في عيون أبنائي يتدارسون عليّ سيرتهم مع عزلتي عنهم، وانكفائي على مكتب متقوّس الظهر حيث أنصرف بهم عنهم لكتبٍ لا تعنيهم، لديّ أبناء ثلاثة أدركوا دائماً أن الحياة كتابة عند أبيهم، فاحتفلوا بحياته بينهم لا حياته فيهم.. كانوا في كل مرّة نراجع فيها تواريخنا يتذاكرون معي حكايات بعض القصائد، حيث أنحدر عليهم من علياء الشجن، أداهمهم بقصيدة لا يدركون من أين جاءت؟ ولا كيف تخلّقت؟ ثم تخرج منهم كلمات الإشادة كالجملة الاعتراضية من دون تنصيص..!
لا ألومهم والله، ولا أنتقص من أثرهم عليّ.. وحسبي منهم أن منحوني لها دائماً من دون امتعاض ولا منافسة، إلا حينما تأخذني الحماسة والنرجسية وأرغمهم على دخول لحظتي الكتابية رغماً عنهم بينما هم يتجولون ويتجادلون ويتجاذبون الأذواق بحالة تسوّق إلكترونية..!
هي الكتابة التي لا أعرف كيف أكون لو توقفت عنها؟ ولا متى سأبقى حينما لا أكتب؟ إنها سيرة حلم، ومسيرة عمر.. وإن باتت اليوم سلوك حياة.. لكن هل تنتهي الكتابة كفعل بالموت، أم أنها تبدأ من خلاله قراءةً؟!
يقال إن الكتّاب الأموات أكثر أثراً وتأثيراً بموتهم، والكتابة بمجملها حالة تفكير، فهل يفكر الكتاب وحدهم بعد الموت؟
يا لهذا الشجن العابر مع غيوم اللحظة.. يمنح ما أنت عليه قداسة لا يدركها -من حولك- غيرك يا إبراهيم..!
أغير من جلستي وأسترد ما أستطيع من هواجسي المأخوذة، لأتحدث مع أحدهم عن مشروع يومه «بحث دراسي / عرض مختص بالعمل.. إلخ»، أجدني أترك كل شيء فيه وأقف على لغته كيف يكتب: «لمَ تجاهلت الهمزة هنا؟! كيف تتم حروف فعل معتل مجزوم هناك..؟».
يا لحصار هذه الكتابة وانهمارها مع هذه اللحظة الممطرة، التي تفتش عن وجودها حتى بأخطاء إملائية لن يتنبه لها سواك.. كيف تدرك بعد حين من السطر.. أن عمرك كتابة، وأن كتابك هو كل عمرك..؟ ثم لا يدرك من حولك أنك كنت تكتب لتبقى، وأن اليوم الذي تموت فيه سيقرؤونك كثيراً لتبقى حياً بينهم حتى وإن كنت غير قادر حينها على ذلك...
الكتابة أثر أخلد من حياة، وأكبر من مصير، هي بوح الصمت، ونبتة المعرفة، وثمار التفكير، ووثيقة التاريخ.. تأخذك إليك منك، وبك عنك، هكذا هكذا وحيدًا معك، وبعيدًا لديك، ثم حين تراجع تواريخ عمرك لن تجدك إلا بها، ولن تتعرّف على ذكرياتك إلا من خلالها..
فاصلة:
الخريف الذي لا يسقط الأوراق.. يتركها خائفة على أغصانها..!




http://www.alriyadh.com/2013105]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]