دخل الابن متحمسا لحجرة الاستقبال وقلبه يفور بمشاعر شتى تملأ وجدانه الثائر وهو يستشعر إحساس البنوة بصفوتها الرقيقة الممتعة ... انه ينتظر مع قريبه الشاب اباه الذى لم يره منذ مر بمراحل الطفولة المبكرة ..... سنوات طويلة وهو يتلهف لرؤيته فقد انمحت ملامحه من ذهنه إلا ما فى ملامحه هو وما يراه صباح مساء فى خياله ... وكم من مرة رسم له صورة تنغرس فى وجدانه ¡ فمهما حدث فهو أباه ¡ صحيح أنه تركه صغيرا مع امه ليقترن باخرى ويعيش معها خارج البلاد ¡ وصحيح انه طوال هذه السنوات كالغريب عنه ... لكنه فى النهاية أباه ¡ لكم تمنى وحرقه الشوق إاليه ... ولكم ناجاه وعاتبه بينه وبين نفسه ...لكم اشتد إليه حنينه كثيرا فى أوقات صعبة من عمره وتمنى أن يكون بجواره ... ولكم بكى منه وله ... وحلق معه فى أفاق الخيال وانتظر لحظات اللقاء بفارغ الصبر وأخيرا شاءت قدرة الله تعالى باللقاء فى منزل قريبه الشاب ¡ وساترك لك عزيزى القارئ تصور اللحظة الحاسمة ... لحظة دخول الأب واندفاعه ناحية ابنه يعانقه فتفيض المشاعر والدموع معا ... وكيف لا يكون لقاد حارا بعد انقضاء هذا العمر الطويل ... لعل هذا الخيال الدرامى قد أثار فى نفسك عزيزى القارئ إحساسا بالنشوة لتفجر طوفان تلك المشاعر الإنسانية الراقية ... سأدع لك قوة الخيال لكى تتصور ما حدث فى هذه اللحظة الحماسية.... هل تتصور بان الأب دخل حجرة الاستقبال فنهض الجميع كى يستمتعوا بتلك الدراما التى ستنفجر بعد ... بينما الابن يحترق بالثوانى المشحونة ... لقد وقف الأب قليلا يتأمل بعيون معبأة بالفضول فى وجوه الحضور ... كان زائغ البصر ... ملتاث البصيرة ... أصابه الارتباك وتسمر أمام الشابين ... بدت الحيرة عليه وأصبح الموقف مؤسفا وأخيرا حسم أمره الزائغ وتقدم للقريب الشاب فى افتعال : أهلا ابنى ... كانت باردة كالثلج ¡ نظر الابن المصدوم إليه فى عجب وقد احتواه غلاف الغربة القاتم : أنا فلان يابابا !! ... لم يشعر بوقع الكلمة الا بكونها كلمة سخيفة لا معنى لها ... كانت تلك الكلمة صراخه فى حلمه فأصبحت خنجرا فى واقعه .... قال الأب فى رعدته الحائرة : آه ... فعلا ... قبله بحفاوة مصطنعة تماست مع دائرة الفتور ....
عزيزى القارئ طبعا خاب املك كما خاب أمل ابطال القصة بالاستمتاع بروعة المشاعر الإنسانية لدى انفجارها فى أمثال هذه المواقف المؤثرة ... لكن تابع معى : كيف ظل التساؤل متأرجحا كالبندول فوق رؤوس الجالسين : هل إلى هذا الحد تطمس المادة مشاعر الإنسان ¡ ليست الطارئة منها بل اوثق المشاعر لصوقا بالنفس كمشاعر الأبوة ... ظل البندول متأرجحا طوال هذه الجلسة المغطاة بسحائب الفتور وخيبة الأمل ... لكن لحسن الحظ كانت جلسة قصيرة ... فالأب بطبيعة الحال متعجل تنهكه مشاغله الكثيره ( وطبعا القارئ يعرف ذلك ولا يحتاجنى كقاص كى احشو بها قصتى ) ... كان الأب قد أتم نهمه فى إشباع فضوله ولا نقول شوقه ... فكثيرا ما يحتاج المقصر إلى شئ يخدر به مشاعره وبقايا ضميره ¡ فيحتفظ ببعض الظلال كأنها أجساد متحركة ... ويخدع نفسه فيصف الفضول بانه كان شوقا ... عزيزى القارئ اعتذر إليك مرة ثانية إذ سوف أصيبك بخيبة الأمل مرة ثانية ... فتجهز نفسيا للمفاجأة القادمة ....
هذه قصة حقيقية استمعت إليها من احد صناع القصة الرئيسيين وهو القريب الشاب (( شاهد العيان ) ¡ وقرأت هذه الحادثة مرة ثانية فى مذكرات صديقى ( وهو ايضا كاتب خواطر وهذا طبيعى وإلا كيف لا نكون اصدقاء ) على صورة رسالة موجهه من الابن لأبيه صاغها صديقى على لسان الابن :
" ما زلت احتاج لك ... احتاجك أيها الشيخ ... تحرك ايها الجلمود ... انطق أيها الصخر الأصم ... تحرك يارجل ... واسمح لى مرة ان أقول لك تلك الكلمة التى ظللت انتظرك لأقولها لك ... تلك الشحنة التى كادت تفجرنى قبل أن القيها ... تلك الحرارة التى أتمنى أن تذيب الجليد الذى ترسب بداخلك ... اسمح مرة ان اقول لك : ياأبى !!!