إذا لم تُفْضِ الحلول الحسنة إلى المطلوب؛ فآخر الدواء الكيُّ، وكما أن البدء بآخر الحلول خطأ فادح يفوت المصالح ويجلب المفاسد، فكذلك يكون التواني والتقاعس عنه إذا جاء وقته خلاف الحزم..
مهما احتاط الإنسان وكدَّ لنفسه في هذه الدنيا، فلن تخلص له من مشَقَّات وكُدورات، وسيرى من التواءِ معاملات أهلها ما قُدِّر له أن يراه، وهذا من حكمة الله تعالى، فقد أعدَّ لعباده المتقين داراً خاليةً من كل كدرٍ زاخرةً بكل صفو، لا يحقد فيها أحد على أحد، ولا يبغي عليه، وطبَع دارهم الدنيوية على الكدر، وجعل تعاملهم فيها مبنيّاً على المشاحّة والتدافع والتنافس، لكنه شرع لهم أوامرَ ونواهيَ تنظِّمُ وسائل معالجة تلك التحديات، وألهمهم من محاسن الأخلاق وثوابتِ الأعراف ما يعين على تيسير التعامل، ويحفظ المصالح، فلم يعدموا لكل مشكلة حلولاً تقلع جذورَ الإشكال، أو تقلِّل آثاره، وتحولُ دون تفاقُمه، ولهذه الحلول أنواع كثيرة، ومن الخطأ أن يستعمل الإنسانُ وسيلة منها في غير مقامها اللائق بها شرعاً وعرفاً ونظاماً، والغالب أن ينشأ من استعمال بعضها في غير محله استعصاءُ الحل بين اثنين؛ لتماديهما أو تمادي أحدهما في استعمال الوسيلة غير الملائمة، لا لكون موضوعهما في ذاته معضلاً، ولي مع خطوات العلاج وقفات:
الأولى: أول حلول المشكلاتِ الكلمةُ اللينةُ والبسمة المشرقة، ودفعُ السيئة بالحسنة، ولهذا الحلِّ نجاعة لا غبار عليها، لكنه صعب المنال، وقد صرح القرآن الكريم بعِظَمِ جدواه وبصعوبته فقد قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، وينبغي للمسلم أن يأخذ نفسه بالدُّرْبَة عليه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يوقن أنه ليس ضعفاً ولا خوراً، بل هو القوة بعينها؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» متفق عليه، بل إن دفع السيئة بالحسنة أكثر من امتلاكِ النفس عند الغضب؛ لأن هذا الامتلاك يحصل بمجرَّد ضبط النفس في مقام الاستفزاز، وكبحِ جماح الغضب، والمقابلة بالحسنى تزيد على ذلك تغطيةَ الإساءة بالكلمة الطيبة أو إسداء المعروف، وأحقُّ من بُذل له هذا الحلُّ الأقربون والأسرة، لا سيما أحد الزوجين، فتحسين الأخلاق مع كل منهم من صميم حقهم، ومن تحسين الخُلُق الدفع بالتي هي أحسن، وعدم مقابلة السيئة بالسيئة، ولا شك أن كثيراً من الأسر التي ابتليت بانفضاضها واضمحلال كيانها إنما أُتِيَتْ من قِبَل عدم القدرة على استعمال هذا الحلِّ.
الثانية: من الخطأ في التدرج في تعاطي الحلول القفزُ بها فوق آليَّات النظام، بأن تكون المشكلة من الحقوق التي يَبُتُّ فيها النظام مباشرة، فيحاول أحد طرفيها أن ينتصف فيها بطريقته الخاصة بعيداً عن الخطوات النظامية، وفي هذا إهدار لجميع الحقوق؛ لأنه قد يُفضي إلى تضييع حقوق الطرفين؛ لأن الطرف الساعي في التصرف بنفسه لا يضمن أن يتأدى إليه حقه كما يجب له، والطرف الآخر مستهدف يوشك أن يدفع ضريبةً أغلى مما يدعى عليه من المظلمة، وفي ذلك تعدٍّ على حقوقه، وفوق هذا كله فمن الإخلال بالنظام إقدامُ الإنسان على أخذ حقه بيده إذا كان أخذ الحق محتاجاً إلى تدَخُّل ذي ولايةٍ؛ إذ هو تعدٍّ على حق السلطة في إنصاف النفس بعضهم من بعض، وافتيات على الحق العام؛ ولا ينجو صاحبه من تبعة المخالفة ولو كان قد استوفى حقه بلا إجحاف؛ ولهذا يذكر الفقهاء أن الافتيات على السلطة فيما يجب أن تنفذه يستوجب التعزير ولو كان المفتات مستوفياً لحقه الخاص.
الثالثة: إذا لم تُفْضِ الحلول الحسنة إلى المطلوب؛ فآخر الدواء الكيُّ، وكما أن البدء بآخر الحلول خطأ فادح يفوت المصالح ويجلب المفاسد، فكذلك يكون التواني والتقاعس عنه إذا جاء وقته خلاف الحزم، والكيُّ في كل مشكلة بحسب حالها، ولا يلزم أن يكون دائما إضراراً بالطرف المخطئ، بل يتصور في بعض الحالات بأن تبتعد عن مصدر الإساءة منسحباً بكرامتك، سادّاً البابَ الذي يلِج إليك الشر من خلاله، فإذا لاح للإنسانِ أن المشكلاتِ لا تنحسم إلا بفضِّ رابطة تقبل الفضَّ، أو باتخاذ خطوة مشروعة لإيقاف المسيء عند حده، كمقاضاة من يستهتر بحقوق الآخرين، أو التبليغ عمن لا ينزجر عن مخالفة النظام، وعن فعل ما ينافي مصالح المجتمع أو يخلُّ بأمنه واستقراره أو يمس لحمته ووحدة صفه، فلا بد من الإقدام على الخطوة التي توقف مثل هذا عند حده، وتحمي المضرور أو من بصدد أن يتضرر، سواء كان الضرر خاصّاً أو عامّاً، بل إن السعي في العامِّ آكد؛ لأن الخاص يمكن لصاحبه أن يتنازل عنه ويغضَّ الطرف، أما العام فلا تتحقق المصلحة إلا بحمايته.




http://www.alriyadh.com/2015230]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]