إنني منحاز للفكر النظري، وأرى أنه أداة مهمة لتشخيص حياة البشر ودفعها إلى مجالات أرحب وأكثر ارتباطاً بالثقافة المحلية. أرى في خلق الأفكار الجديدة دعماً للتنوع الذي يحقق الذات ويصنع خصوصية المجتمعات ويجعل من الابتكارات التقنية ذات نكهة محلية خاصة، لكنها صالحة للمجتمعات الأخرى..
علّق أحد الزملاء على مقال الأسبوع الفائت أن مشكلة العمارة القادمة هي أن التقنية صارت تسبق الأفكار، وأن البحث العلمي والفكري أصبح أكثر بطئاً مقارنة بالتقنيات المتطورة التي تتسارع بحدة كل يوم. يقول الزميل إننا أمام منحنى خطر جداً، يتمثل في كون المهتمين بالفكر والبحث العلمي في مجالات عدة سوف يشعرون بأنهم عاجزون عن مواكبة التطور التقني غير المسبوق، وأن ما يقومون به هو مجرد "ذر الرماد في العيون"، أي أنه نوع من أداء الواجب لأن عملهم لا يوجه ولا يغير واقع، بل مجرد بحث من أجل البحث وليس من أجل إحداث تغيير فعلي لأنه عندما يتم الانتهاء من الدراسة تكون التقنية تغيرت ويصبح هناك واقع مختلف. يبدو أن كثيراً من المهتمين بالبحث العلمي صاروا يشعرون بهذا الواقع المخيف، رغم أنه يفترض أن تطور التقنية في الأساس قائم على البحث والدراسة، فلماذا تنامى هذا الشعور في الفترة الأخيرة؟ البعض يرى أن البحوث الموجهة التي تطور التقنية هي جزء من البنية الجوهرية لهذه التقنية وهي بنية لها نظامها الخاص المنفصل عن مسار البحث العلمي التقليدي. أي أن هناك عالمين للأفكار والأبحاث؛ أحدهما سيسود العالم وهو الذي يغذي التقنية فقط، والآخر سيندثر وهو الذي كان يعزز من الاختلاف والتنوع بين البشر.
المهتمون بالنقد الفكري، المعماري على وجه الخصوص، يرون أن الدراسات الفكرية الكبرى التي طبعت القرن العشرين بطابعها لم تعد مجدية في الوقت الراهن، ومن المتوقع أن يخلوا هذا القرن من دراسات نقدية مهمة، والسبب هو أن التقنية صارت أسرع من الفكرة، وأن أي دراسة ستكون قديمة بشكل دائم لأنها تحتاج إلى وقت طويل مقارنة بالسرعة التي تتطور فيه التقنيات. شخصياً شعرت بهذا التراجع على مستوى برامج الدراسات العليا، في مجال العمارة، فلم يعد الكثير يهتم بالنظرية والنقد بينما اتسع الاهتمام بالاستدامة وبدراسة الطاقة في العمارة. الأصل في دراسة العمارة هو التاريخ والنظرية والنقد وما عداها يعتبر دراسات حول تقنيات العمارة. تبدل المناخ الأكاديمي له ما يبرره لأن "الفكرة" لم تعد تواكب سرعة المنتج. لعلي أنوه هنا أنه حتى على مستوى النشر العلمي، تقلص عدد المجلات المتخصصة في الأفكار (النظرية والنقد) وأصبحت تهتم بقضاياها المحلية في أضيق نطاق.
هل سنواجه أزمة أفكاراً في المستقبل القريب؟ البعض يرى أن ما يحدث الآن هو مقدمة لتصنيع كل شيء مع تقليص التدخل البشري، ليس فقط في عملية الإنتاج بل حتى صناعة الأفكار. الإشكالية لا تكمن في أن التقنية صارت تسبق الأفكار فقط بل في أن الذين يعملون على صناعة الأفكار صاروا يشعرون أن عملهم غير مجدٍ. غياب الحافز يعني أن العالم قد يشهد غياباً كبيراً لصناع الفكر النظري على وجه الخصوص، فلطالما كانت الأفكار النظرية تقود التقنية والتصنيع لكن هذا الأمر في طريقه للتوقف، فلماذا يجتهد المفكرون ولماذا يعملون على خلق أفكار نظرية جديدة، هذا الشعور موجود فعلاً وليس متخيلاً، وتدعمه المناهج التعليمية وتحث عليه أساليب العمل، يجب أن ننبه أنه لا يزال في بدايته، وربما بعض المشتغلين بالأفكار النظرية لا يزالون يرون أهميتها لكن الاحتمال الأكبر أن هذا الاهتمام في طريقه إلى الزوال لأن لا أحد يطلبه أو يشجعه.
أحد الأسئلة التي تشغل البال هو: كيف سيكون العالم إذا ما توقف البحث النظري فعلاً؟ قد يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي سيعوض هذا النقص، فهم يرون أن البشر فكروا في كل شيء ولم يعد هناك حاجة لأفكار جديدة، هذا التوجه يشكل الجبهة الأقوى في الوقت الراهن، وفي ظل خفوت الفكر النقدي يمكن أن يكون هو التوجه السائد. السؤال الآخر مرتبط بالمكون العقلي والثقافي للإنسان، فهل سيدفع هذا إلى ظهور الثقافة الإنسانية الموحدة التي يدعو لها أمثال "بل غيتس" وغيره. يبدو أن محاربة الفكر النظري وتهميشه هو مفتاح بزوغ هذه الثقافة الموحدة، لأن التمايز والاختلاف بين البشر يكمن في هذا الفكر، وهذا أمر، بالنسبة لمن يقود الثقافة العالمية الموحدة أمر يجب أن يتوقف.
دعوني أقول إنني منحاز للفكر النظري، وأرى أنه أداة مهمة لتشخيص حياة البشر ودفعها إلى مجالات أرحب وأكثر ارتباطاً بالثقافة المحلية. أرى في خلق الأفكار الجديدة دعماً للتنوع الذي يحقق الذات ويصنع خصوصية المجتمعات ويجعل من الابتكارات التقنية ذات نكهة محلية خاصة، لكنها صالحة للمجتمعات الأخرى، لكن هذا الانحياز يواجه تحدي الثقافة العالمية وتطور التقنيات المساندة لها التي صارت تسبق أي فكرة جديدة، ما يخشاه كثير من المنحازين للتمايز الفكري بين الشعوب هو هذا الشعور بعدم جدوى الاشتغال بالتفكير واليأس من جدوى خلق الأفكار الأمر الذي قد يخلق فجوة حضارية إنسانية لا يمكن ردمها في المستقبل.




http://www.alriyadh.com/2032944]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]