تغادر صالة السينما لكن ما تزال تعيش صداها؛ لأن ذاكرتك -قطعاً- تحتفظ بالمشهد الذي عصف بك وجعلك مندمجاً ومتفاعلاً معه تبقيه، تستعيده، تكرره.. وأحسب أنني كما كثيرين غيري قد وجدنا في أفلام كثيرة مشاهد تختصر الفيلم أو تكون الوحيدة اللافت فيها.. لكن مع «تشيللو» كل اللحظات والحوارات صنعت الفيلم.. فكانت جودة الرواية سبيلاً لجودة الفيلم.. لتعلَق جميعاً بالذاكرة.
قبل الفيلم كانت الرواية التي خرجت بنا من حكايات رائحة الحارة وأزقتها وأبعدتنا عن صراعات الماضي والحاضر.. حضرت بثوب عصري متمدن اختارت الاشتباك مع الماضي وعصرنا الراهن التشيللو بدلاً من الكمنجة.. السفر من الرياض إلى نيويورك.. السعودية، إيطاليا.. خروجاً من أزمة المشاعر في القرية وصوت محمد علي سندي أو سالم الحويل.. لتدخلنا في زمن التشيللو «الآلة التي يقال عنها أنها الأقرب إلى صوت الإنسان».. حقيقة فقد كانت رواية «تشيللو» لـتركي آل الشيخ مع تجسيدها سينمائياً تقفز كثيراً بمُشاهد أحداثها على الشاشة الكبيرة، فحين تقوده إلى الإحباط.. فجأة يعود أدراجه للتفاؤل ليجد الحب صافياً من خلال آلته التي عشقها حتى لو أدمت يده.
الرواية عبقت بكثير من الصراعات والمفارقات.. لكن ليس مجالنا هنا أن ندلف إلى أصقاعها لأن كثيرين فعلوا وأشبعوها طرحاً.. ما يهمنا هنا كيف وجدنا فيها فيلماً سينمائياً ينقذنا من العبث لكثير من الأفلام الخليجية التي -للأسف- يطلق عليه البعض عملاً متميزاً رغم أننا لم نجد في معظمه إلا تداخلاً في فن عظيم لم يستطيعوا مواكبته.. «تشيللو» هي أولى محاولات الخروج من عباءات ضيقة إلى فضاءات أرحب.. يرافقنا فيها الحلم، تنتعش بها الذاكرة، تؤلم لكن تحيي الأمل.. عقول ومساحات.. ليكون تجسيد الرواية لفيلم سينمائي يُشكل امتداداً طبيعياً للحراك الوطني الكبير وبما جعل المملكة العربية السعودية ضمن الأكثر نمواً وارتقاء عالمياً ثقافياً وسياسياً واقتصادياً.
أقول عن فيلم تشيللو: إنك تنقاد للبطل، تعيش مشاعره وفق تيمات أساسية للعمل أبرزها الإحباط، التوجس، الحب، الخوف، والتمازج، وتكون وفق إطار الجودة في السيناريو والتنفيذ والإخراج.. وكأنها انبعاثه صعبة لعمل مميز.. احتجنا أن يكون بهذه القيمة ليهز تلك السينما التقليدية التي -للأسف- لم يخرج كثير منها عن صفة المكرر تحت مسمى سينما.. فالتطلع للأفضل والتميز وحتى إثبات الوجود لن يكون في الاستمرار على منوال السائد من السينما التي تقتفي أثر قصة وترميها في أفواه حكواتية يتحركون معها، بل هي قيمة فنية عالية ترتكز على معايير كبيرة إذا كانت تنشد النجاح كما حدث في فيلم تشيللو.. الذي احتوى على كل مقومات العمل المتفوق الذي نريده.
تميز الرواية أعطى كل المساحة للمخرج لترجمة النص الأدبي إلى السينما، حتى أنه من قوته نقله إلى الشاشة بكل مصداقية وأمانة، رغم أن أي مخرج يملك حق التغيير من القراءة للمشاهدة وفق التعابير والمتغيرات التي يحتاجها الفيلم.. ليخرج تشيللو الفيلم من نمط التكرار والمشاركة متفوقاً على كثير مما قدمته السينما العربية التي أصيبت بالوهن ولم تعد قادرة على أن تعيد أمجادها بالأعمال العظيمة كما كان فيلم الأرض وإسكندرية ليه وغيرهما.. وهذا ما يجعلنا ننظر لـ»تشيللو» على أنه نبراس جاد لمستقبل سينما سعودية بدأت من المكان الذي بلغت السينما العربية فيه تفوقها وتوقفت.
أقول ختاماً: إن ثمة يقين أن البداية ستكون صعبة.. لكن لعل «تشيللو» اختصرها، ولا بأس إن سرنا في تنفيذ الأعمال السينمائية الرائدة بخطى بطيئة، لكن لنجعلها ثابتة ومؤثرة، لأجل صناعة سينمائية أردنا أن نبدأها متفوقة مؤثرة.. ولا بد من العمل من خلال السينما السعودية المقبلة على نحو جاد يسمح بالحديث عن واقعنا الحديث بما نريده وما نحتاجه سواء في إطار الدراما أو الكوميديا، يكون هدفها الرئيس كما «تشيللو» خلق المفاهيم، يسمح للمتفرج بأن يواكب واقعه الحقيقي وفق آمال درامية تنبع من الذات السعودية.
http://www.alriyadh.com/2035302]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]