على إسرائيل أن تدرك أن العنف الشديد الذي تمارسه مُنذُ قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لم يأت لها بالأمن الذي تنشُده، ولم يحقق لها السَّلام الذي تبحث عنه، ولم يجلب لها الاستقرار الذي تتطلع له، ولم يجعل منها دولة طبيعية في أعين الشعوب المحبة للسَّلام..
ستة وسبعون عاماً مضت على قرار تقسيم فلسطين الصَّادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بالرقم 181 بعد تصويت ثلاث وثلاثين دولة مع القرار، وثلاث عشرة دولة ضده ومعارضته بشكل قطعي، وامتناع عشر دول عن التصويت، وما زالت آثاره السلبية تتصاعد يوماً بعد يوم حتى أسمعت العالم أجمع. وستة وسبعون عاماً مضت على قرار تقسيم فلسطين وانتهاء الانتداب البريطاني، وما زالت بريطانيا والدول الداعمة للقرار 181 مسؤولة أخلاقياً وقانونياً وسياسياً عن النتائج المدمرة التي وصلت لها الأحوال السكانية والاجتماعية والصحية والحقوقية في فلسطين التاريخية. وستة وسبعون عاماً مضت على القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين لثلاث مناطق: عربية، ويهودية، ووصاية دولية على القدس وبيت لحم وما جاورها، وما زالت آثار غياب العدالة، وشيوع الظلم، واستمرار الاستعمار، والتعدي على الحقوق المشروعة لأصحاب الأرض، تقض مضاجع الوافد المحتل، وتشغل سياسات الدول الداعمة لقرار التقسيم، وتقلق قادة وسياسيي تلك القوى الدولية الداعمة تاريخياً لثقافة الاستعمار، وتُخجِل شعوبها بمواقفها المتناقضة مع ما تعلنه من قيم ومبادئ شعارها المعلن: حق الشعوب في تقرير مصيرها. وستة وسبعون عاماً مضت على القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين باقتطاع وسلب جزء من أراضيها ومنحها للوافد المهاجر من أقاصي الأرض ودعمه وتمويله ومنح المشروعية الدولية له، وما زالت فلسطين التاريخية بحدودها وبحارها وأنهارها ومياهها حاضرة في قلوب وعقول أبنائها كما لو أنهم يحيون في ذلك الزمان، ويعيشون فوق تراب تلك الأراضي والمناطق والأقاليم. ستة وسبعون عاماً مضت على تقسيم فلسطين بالرقم 181 الذي مهَّد وهيّأ لإعلان قيام إسرائيل على الأراضي الفلسطينية في مايو 1948م، وما زالت تبحث عن شرعية وجودها فوق الأرض التي قامت عليها، وتبحث عن تعزيز علاقاتها في الإقليم الذي نشأت على جزء من أراضيه المقتطعة بقرار التقسيم، وتبحث عن أمن كيانها وسلامة شعبها من أصحاب الأرض الأصليين ومن الجوار الإقليمي الداعم للشرعية والحقوق الفلسطينية. نعم، هكذا هي الأوضاع في الأراضي الفلسطينية حيث البحث عن تقرير المصير حق مكتسب لمن احتلت أرضه بأي طريقة كانت، وحيث البحث عن الشرعية والأمن والسلامة والاستقرار غاية للوافد المُهاجر بأي طريقة كانت، وحيث الانقسام الدولي بين مؤيد ومعارض لكلا الطرفين قائم كما لو كُنا في العام 1947م. فإذا كانت هذه هي الحقيقة القائمة تاريخياً وما زالت حيث البحث عن الحقوق والدفاع عن الكرامة يقابله الظلم والجور وغياب العدالة، فإننا لن نستغرب حالة التصعيد والعنف والاستخدام المفرط للقوة الذي تشهد الأراضي الفلسطينية في قطاع غزة في أكتوبر 2023م. نعم، إننا نشهد حالة جديدة من حالات العنف، وجولة من جولات الصراع التي اعتادت عليها الأراضي الفلسطينية على مدار الستة والسبعين عاماً الماضية والتي لم تثمر إلا مزيداً من معاناة الأبرياء، واستنزافاً عظيماً للموارد والقدرات والجهود والأوقات الثمينة، فإذا كانت هذه هي الحقيقة القائمة، فإننا نتساءل إن كانت حالة التصعيد والممارسة المفرطة للقوة سوف تأتي بالأمن وتحقق السَّلام وتضمن الاستقرار؟
قد يرى البعض أن هذا التساؤل غير منطقي ويدعو للتعجب، لأنهم يرون أنه يتنافى تماماً مع العقلانية في أدنى مستوياتها حيث العقل يساعد الإنسان على الوصول للقرار الرشيد من غير تجريب في المسائل الواضحة والبينة، وقد يرى البعض أن الإجابة عن هذا التساؤل سهلة يسيرة حيث العنف يدفع للعنف المضاد مهما كانت الظروف والأحوال ومهما اختل ميزان القوى بين الأطراف المتنازعة، ما يعني أن الإجابة المباشرة تتمثل بالنفي القطعي والقول بـ "لا"، إلا أن الحقيقة تقول إن طرح هذا التساؤل يمثل المنطقية في أعلى صورها، وبأن استمرارية حالة العنف تنفي تماماً سهولة ويسر الإجابة. نعم، إن طرح هذا التساؤل يتماشى تماماً مع المنطق قياساً على مجريات تاريخ الصراع الممتد منذ العام 1947م واستشهاداً بما تشهده الأراضي الفلسطينية من حالة عنف شديدة بين الفصائل الفلسطينية والقوات المسلحة الإسرائيلية. فإذا أدركنا أن هذه الستة والسبعين عاماً لم تنه حالة الصراع بين أصحاب الأرض والوافد المُهاجر، فإننا نتكلم عن حالة تستحق الطرح والتفكر بعقلانية عن طبيعة هذا الصراع الممتد حيث العنف الشديد والتصعيد المتواصل أدى بالضرورة لعنف مضاد ولمزيد من التصعيد المسلح المدمر للأرض والمستنزف للموارد والمهلك للبشر، وإذا أدركنا أن هذه الأعوام الستة والسبعين لم تقنع نتيجتها الأطراف المتنازعة بالتوقف عن التصعيد وممارسة العنف بأشد صوره وأساليبه وسلوكياته، فإننا نتحدث عن حالة سياسية وأمنية وفكرية معقدة ومركبة تستحق التفكر والتفكير الهادئ والعميق لنتعرف على الأسباب التي تدفع كل طرف للثبات على قيمه ومبادئه وكرامته والحصول على حقوقه مهما كلف ذلك حتى وإن بذل نفسه وماله وأنفق موارده وواجه أشد أنواع العنف والتصعيد.
فإذا كان عدم التنازل ورفض كل طرف للآخر هو الحقيقة القائمة في الأراضي الفلسطينية منذ العام 1947م، وإذا كان العنف المتواصل والتصعيد المستمر هو واقع الحال منذ قرار تقسيم فلسطين رقم 181، فإن هناك أطرافا دولية دعت وما زالت تدعو بكل حكمة وعقلانية لأهمية وقف العنف والتصعيد المسلح وحل النزاع بالوسائل الدبلوماسية المعمول بها في المجتمع الدولي، ومن تلك المواقف الدولية الحكيمة موقف المملكة العربية السعودية الذي أعلنته في بيانها الصادر عن وزارة الخارجية في 7 أكتوبر 2023م والذي جاء فيه الآتي: "تتابع المملكة العربية السعودية عن كثب تطورات الأوضاع غير المسبوقة بين عددٍ من الفصائل الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، ما نتج عنها ارتفاع مستوى العنف الدائر في عدد من الجبهات هناك، وتدعو المملكة للوقف الفوري للتصعيد بين الجانبين، وحماية المدنيين، وضبط النفس، وتذكر المملكة بتحذيراتها المتكررة من مخاطر انفجار الأوضاع نتيجة استمرار الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدساته، وتجدد المملكة دعوة المجتمع الدولي للاضطلاع بمسؤولياته وتفعيل عملية سلمية ذات مصداقية تفضي إلى حل الدولتين بما يحقق الأمن والسلم في المنطقة ويحمي المدنيين."
وفي الختام من الأهمية القول إن على إسرائيل أن تدرك أن العنف الشديد الذي تمارسه مُنذُ قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لم يأت لها بالأمن الذي تنشُده، ولم يحقق لها السَّلام الذي تبحث عنه، ولم يجلب لها الاستقرار الذي تتطلع له، ولم يجعل منها دولة طبيعية في أعين الشعوب المحبة للسَّلام، وإنما جعل منها كياناً منبوذاً برفضها للسَّلام واستخدامها المُفرِط للعُنف وممارساتها العنصرية البغيضة. وإذا كان هذا هو حال إسرائيل، فإن على الدول الداعمة لها أن تدرك أن العنف الشديد الذي تمارسه تجاه الفلسطينيين سوف يضاعف من عزلة إسرائيل إقليمياً ودولياً، ويؤدي بالضرورة لتصاعد روح الانتقام والثأر لدى الفلسطينيين ومن يقف معهم ويؤيدهم ويساندهم، هكذا هي المعادلة السياسية حيث العنف يأتي بالعنف المُضاد وليس الأمن، والتصعيد يجلب التصعيد المُضاد وليس السَّلام، فهل تستمع إسرائيل ومن يقف معها ويساندها لصوت العقل والحكمة التي نادت بها المملكة العربية السعودية والدول المُحبة للأمن والسَّلام والاستقرار الإقليمي والدولي؟.




http://www.alriyadh.com/2037319]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]