يقول جلال الدين الرومي.. على لسان الناي:
«إنني مذ قطعت من منبت الغاب لم ينطفئ بي هذا النواح؛ لذا ترى الناس رجالاً ونساءً يبكون لبكائي، فكل إنسان أقام بعيدًا عن أصله يظل يبحث عن زمان وصله..».
ثم يضيف: «إن صوت الناي نار لا هواء فلا كان من لم تضطرم في قلبه هذه النار».
في المقابل يقول فيكتور هيجو في تعريفه للموسيقى:
«الموسيقى تعبّر عما لا يمكنك قوله ولا تستطيع السكوت عنه..!
إذن.. ليس إلا أن تستلقي على أريكة من خيال.. فيأتيك الصوت.. راقصًا.. ضاحكًا.. باكيًا.. ثم لا تستطيع إعادته لمجرى اللحظة ولا القبض عليه بين شفاه أخذتها الدهشة إلى ذلك الصمت المدوّي بالضجيج..!
إنها الموسيقى.. تلك التي لم «نعرّبها» حين اجتهدنا في تفسيرها حد التقصير فيه.. هكذا:
لفظٌ يوناني يطلق على فنون العزف على آلات الطرب.. وبالتالي فهي (علم يُبحث فيه عن أصول النغم من حيث تآلفه وتنافره، وأحوال الأزمنة المتخللة بينها، ليُعلم كيف يؤلّف اللحن...)
فهل ترانا تركناها لعجميتها افتتاناً بصوتها اللغوي فينا وحفاظًا على هيبتها التاريخية أم أننا وجدنا لنا في مسمّاها ما يشبهها حين لا ندرك برغم كل ما تفعله فينا.. ما الذي فعلته بنا..!
غموضها فينا حقائق لنا، وتوهاننا فيها خارطة التاريخ لها...
الموسيقى أكثر من الكلام وأذكى من الصمت.. أقدر على الوقت حتى وهي تستنفذه ساكنًا.. وتستدرجه ليكون لها وحدها..
إنها إصغاء الوقت لنفسه حين يثرثر لساعاته عن شجون وشؤون أهله.. هي صوتٌ لا يشبهه سواه ولا يدركه غيره..
الموسيقى بلا خارطة.. وبلا زمن وبلا تاريخ محدد.. جسر يعبر حدود كل شيء ليصل بالخيال حيث يشاء.. في المقابل تبدو دائما قناة استدعاء لكل شيء من أول التذكر حتى آخر الحنين.. وربما لهذا كله ظلت الموسيقى في الشعر عند العر بي أشبه بالإله الذي لم يعبد حين طوّر كل شيء في قصيدته وأبقى على الإيقاع فيها، قبل أن يكتشف أخيراً أن الموسيقى أشمل وأكبر من تفعيلات مرصوصة لا تخرج من إطار لغتها، حين انكشف على شعر آخر يخلق موسيقاه الأبدية عابرة للأزمنة وأنانية اللغات، ممثلا بقصيدة النثر التي تتنقّل من لغة إلى أخرى عن طريق الترجمة دون أن يخونها صوتها أو تتعثر بتفعيلاتها..
قديمًا في صحراء البدوي الشاسعة ظل يبحث فيها عن موسيقى طبيعية فوقف كثيراً عند سجع الحمام إذ يقول الشاعر البدوي الكبير غيلان بن عتبة «ذو الرمة»:
ولو لم يهِجني الرائحون لهاجني
حماَئمُ وُرقِ في الديار وُقوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى
نوائح لا تجري لهن دموع
قال ذلك بحثا عن موسيقاه وإن كان بعض الرواة قد نسب قوله هذا لقيس ليلى.. في خلطهم الكبير لرواية فرائد الشعر القديم...
وأيا كانت الموسيقى.. أجاءت من أصوات الطبيعة أو محاكاة لها.. ظلّت دائما اللغة الوحيدة التي يتلقّاها القلب مباشرة دون تعليم أو شرح أو تلقين.. تسهم في فهم الحياة وإعطائها بعدا وعمقا آخر ليس أوله الاستدعاء وليس آخره انبثاق الفكرة في منابتها الأولى...
فاصلة:
أحبّكِ أنت.. وهل أنت إلا المطر
وهل أنت إلا انبثاق الحنين.. بحزن الوتر
وهل أنت إلا دعاء اليتيم وحلوى السمر
أعدّي لنا قهوةٍ غير هذي..
فمازال للبوح متسعٌ.. والمساء ضمير السهر ..




http://www.alriyadh.com/2039115]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]