حينما ظهرت «الكوميديا الاجتماعية» جعلت الطبقة الوسطى تقبل على المسرح لأنهم يرون أنفسهم فيها، فتدفق الجمهور على المسرح في ذلك الوقت مما عمل على نهضة مسرحية، ليس في مصر فحسب، وإنما في أرض الشام أيضاً نظراً لامتزاج الفرق المسرحية وتنقلها وعامل الاستقرار الاجتماعي والفكري حينها..
هل نأخذ بالرأي القائل إن للمسرح حتمية تاريخية؟ بطبيعة الحال تاريخ المسرح مهم ويدرّس في الجامعات بكل مراحله وخصائصه وسماته بحسب المرحلة التي يمر بها، وكذلك نستخلص التاريخ الاجتماعي كل أمة من خلال معطياته، فتاريخ المسرح عاكس للمجتمعات تطورها وازدهارها وتقلباتها بين العلو والضعة، وهو الأصدق والأجدر بالاهتمام.
أذكر أن أحد أساتذتي قد كلفني ببحث عن الظروف الاجتماعية والسياسية والفكرية أيضا في أوروبا خلال القرن الثامن عشر من خلال تحليل النصوص المسرحية التي كتبت في ذلك الوقت. وقد هالني ما وصلت له مما عكسته تلك الظروف على المسرح وكيف كان حارسا أمينا على تقلبات عصره بكل جوانبها، بل كان أصدق من أقلام المؤرخين أنفسهم!
ولنا في ظهور المسرح الإليزابيثي خير دليل عن تلك المؤثرات سلبا وإيجابا تزهو به تارة وتكبله تارة أخرى لكن الحتمية التاريخية كانت راصدا لكل شيء سواء في ضعفه أو في هزاله لما له من حتمية تاريخية تفرض أطرها عليه!
فإذا ما تتبعنا هذا التاريخ فسنجد أن ازدهار المسرح اليوناني قد انقلب لدى الرومان نتاج اهتمام الرومان بالرياضة على حساب المسرح بالإضافة إلى ضعف الكتاب المسرحيين الرومان، ولذلك وصل المسرح في إنجلترا على سبيل المثال إلى ضعفه الشديد إبان القرن الخامس عشر.
فبالرغم من أن الرومان قوم عمليون يهتمون بالعمارة والهندسة وغير ذلك من فنون القوة والبسالة والعنفوان المعرفي الصلد؛ إلا أن بعد صعود نجمهم كان ينبغي لنا أن ننظر إلى أي مدى تفاعلت ثقافتهم مع الثقافة الإغريقية، لما له من قيمة تاريخية.. من هذا نستخلص جملة أمور منها موقف الرومان من الإغريق، حينما واجهوا مشكلة التشييد والعمران لم يغفلوا المسرح والشعر لما يتحتم على كل حضارة مهما بلغت قوة التشييد والمعمار إلا أن للمسرح شأنا آخر، فقوة التشييد والمعمار التي لا يصاحبها تشييد معرفي قد تخلق حوائط عازلة دون حميمية الفرد وواقعه دون حميمية ثقافية.
"فالرومان بطبعهم رجال حرب ومدنية وعمران، لكن حظهم من الصفات العقلية الخالقة محدود، فلم يكن بد من أن يتطفلوا على ثقافة شعب من الشعوب المجاورة كالإغريق وقد كان، وتوسلوا إلى ذلك بوسائل شتى بعضها مخز وبعضها طبيعي - كانوا يسرقون أسرى الحرب منهم ويستخدمونهم في أدبياتهم".
ثم إنه لم يكن في روما جامعة واحدة تؤمن العلم والثقافة لأبنائهم فقد كانوا يرسلون الشباب للتعلم في أثينا. وقد برع الرومان في القانون لكن ثقافة النقد والشعر والمسرح جافت رؤوسهم، فكانت الحضارة المعمارية والحميمية الفردية بها تتناسبان تناسباً عكسياً مع الشعر والمسرح، فيقول شيلي في سياق حديثه عن العلاقة بين انحطاط المسرح والفوضى الاجتماعية: "نمت في روما القديمة في دوائر أضيق. لكن مظاهر الحياة الاجتماعية، وأشكالها لا تبدو مطلقا أنها كانت مشربة بروح الشعر تماما. الظاهر أن الرومان كانوا يرون في الإغريق أنهم خزائن غنية بالمعرفة الخالصة، وأنهم صوروا المجتمع والطبيعة، وأنهم أحجموا عن إنتاج شيء في لغة الشعر أو النحت أو الموسيقى أو العمارة تشير إشارة خاصة إلى ظروفهم الشخصية. على أننا نحكم استناداً على دليل جزئي، وربما كان حكمنا جزئياً كذلك".
فإذا عدنا إلى المسرح في أوروبا وفي إنجلترا على سبيل المثال سنجد أنه كان ضعيفا مضعضعا يتوكأ على بعض الفرق الخاصة أمثال جون ليلي (1554 - 1606) وروبرت جرين (1560 - 1592) وجون بيل (1565 - 1591)، ثم ماذا عن فرقة شكسبير التي تبعتهم أو قل تزامنت معهم؟
لقد كانت هذه الفرق تتعرض لمشكلات كثيرة -كما يعاني منه مسرحنا العربي الآن- حتى استقرت الأوضاع الاقتصادية والفكرية في عهد الملكة (إليزابيث 1570) التي وقفت مع المسرح الشعبي وناصرته آنذاك؛ ويرجع بعض النقاد ذلك لأنها تنتمي إلى هذه الطبقة من ناحية الأم، فظهر ما يسمى "كوميديا المدينة" التي نهضت بالنشاط المسرحي في إنجلترا كما ساعد على ذلك النشاط ظهور طبقة التجار وأصحاب الأعمال إما طمعا في استثمار أموالهم وإما دعما للمسرح، وفي ألأغلب أنهم يتوقون نحوه تجاريا كعادة رجال الأعمال في استثمار المسرح. فبدأ الناس بالإقبال على المسرح وانتشرت رقعته.
فبالرغم من ظهور الطاعون عندما ضرب المدينة والتي منعت التجمعات أمام المسرح علي الضفة الأخرى من نهر التايمز شاركت تلك الفرق في المسرح وازدهاره وتدفقه لأن رأس المال يعمل والتجار والمستثمرون يتسابقون والكتاب مغازل تنسج وأولهم ريتشارد بيربدج فهو كبير كتاب المسرح آنذاك، فأنشأ أسماه The Ileatr وهو الجد الأكبر لمسرح الجلوب الذي أنشأه (كاثبارت) بعد الحريق التحق به شكسبير بفرقته عقب وصوله إلى لندن من مدنية (سترافورد آفون).
هذا السباق المحموم على المسرح هو من أخرج لنا شكسبير لأن شمعته موقده وجماهيره حاضرة وصالاته مليئة برجال الأعمال أمثال (فيليت هنسلو) وهو تاجر من الأثرياء الذي بنى مسرح (الوردة الحمراء) لكي ينافس شكسبير. وهذه الأعمال هي من صنعت نهضة المسرح في إنجلترا.
ويتوالى ارتباط نهضة المسرح بحسب ظروف مجتعمه أيضا، فأغلب الفرق المسرحية المعاصرة لشكسبير قد أغلقت بدوافع الرأي، إلا أن شكسبير كان يبقي الحال كما هو عليه في كل نهايات مسرحياته ويقتل جميع الشخصيات ولعل ذلك من عوامل بقائه دون غيره حتى يومنا هذا، وحتى على مستوى المسرح العربي حين لعب الاقتصاد دورا مهما في المسرح فمجرد أن حدثت أزمة القطن الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وراجت تجارة القطن في مصر ازدهر المسرح، ثم تطور على يد عزيز عيد وعلي الكسار والريحاني وغيرهم ممن صنعوا نهضة مسرحية كبيرة.
هذا الإقبال على المسرح جراء تحسن الظروف الاقتصادية نهض به وبشكل كبير. كما أن للسيولة الطبقية شأنها في هذا الأمر، فحينما ظهرت "الكوميديا الاجتماعية" جعلت الطبقة الوسطى تقبل على المسرح لأنهم يرون أنفسهم فيها. فتدفق الجمهور على المسرح في ذلك الوقت مما عمل على نهضة مسرحية ليس في مصر فحسب وإنما في أرض الشام أيضا نظرا لامتزاج الفرق المسرحية وتنقلها وعامل الاستقرار الاجتماعي والفكري حينها.
http://www.alriyadh.com/2041404]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]