يحسب لمصطفى صادق الرافعي سَبْقَهُ بين المحدثين، بحثه في موضوع نحل الشعر، عندما أفرد له مبحثًا في كتابه «تاريخ آداب العرب»، ونعته بمفردتي الوضع والصنعة في الرواية، وهما نوعان: الكذب المحض في رواية الشعر، أو الرواية الصادقة المختلطة ببعض المكذوب فيه، ويبيّن عوامل انتشار الروايات المكذوبة والمدلَّسة، ومن أهمها ولوع العامة بالنوادر والطّرف، ما يسوّغ الإقبال عليها حفظًا ورواية، ورغبة بعض الرواة في الحجج والأدلة المؤيدة، فكان أحدهم لا يتورع في النقل دون تمحيص، فيأخذ السمين ويذر الغث، خلافًا لذاك كان سواد أهل العلم المتورعين، المتثبّتين قبل إبداء الرأي والبت في المسألة. هذا الكسائي يصف التحدي الذي واجهه، عندما سئل عن سبب بكائه فقال، إنّ الملك يرسل المسألة النحوية ويتعجلّ الجواب، فإن أبطأ عوتب، وإن تعجّل خشي الزّلل.
لم يكن الأمر مقصورًا على علم النحو، بل انسحب على الشعر والنثر، ومثله كان التجرؤ على الوضع في رواية الحديث عن النبي (ص). من أسباب الوضع أيضًا، افتعال اللغة، وهو الكذب في صنع الدليل والشاهد، لأجل إدخال المفردات غير العربية على اللغة، وأشهر من عرفوا بذلك، أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي، وكان قوي البديهة في الشعر وهو صاحب بيت (الخنفشار) المشهور، ليدلّل على مفردة تطلق على حشيشة يعقد بها اللبن في بادية العرب، فقال: لقد عُقدت محبّتها بقلبي// كما عَقد الحليب الخنبشار.
ما حدث في اللغة من وضع حدث في ذات الشعر، ولأنّه ديوان العرب، دار على ألسنتهم، وتفتّقت له فصاحتهم، وجمعوا فيه أخبارهم ومغازيهم، وأيامهم وانتصاراتهم، كان لابد من رواة يهتمون بحفظه عن الشاعر المُجيد، وينقلونه للقبائل والأقوام، من جهة، ويورثونه للأجيال القادمة من جهة أخرى. والكذب هنا درجات، قد يبدأ من الشاعر في الزيادة في المعنى وادّعاء غير الحقيقة طلبًا للحمد والثناء، ومن ذلك ما دار بين الأعشى وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، في ادعاء حُكمٍ لأحدهم بالأفضلية على الآخر. وبذلك يرى الرافعي أنّ هذه الدرجة من الكذب والتي سمّيت بأكاذيب الشعراء، قد ظهرت في الجاهلية ولم يُزَد عليها.
لكنّ الوضع ما لبث أن تغيّر بعد البعثة، لانصراف المسلمين عن حفظ الشعر وروايته إلى مقاصد أَوْلى، مثل الجهاد ونشر الدين الجديد، ذلك ضيّع معظم الروايات، كما غيّب الموت الرواة، فصارت العرب تصنع الشعر تعويضًا لإرث مفقود، وأولهم قريش، الذين وضعوا الشعر على حسان بن ثابت. ثم كثر ذلك في القرن الثاني للهجرة وكان قرن الرواية العلمية، فزاد الإقبال على الشعر، لأنه كان شاهدّا رئيسًا في علوم النحو واللغة وتفسير القرآن، حينها فُتِن الناس بأبناء الشعراء، وتتبعوا آثار آبائهم عندهم، لكنّ غير واحدٍ منهم صار يضع على شعر أبيه.
ولمّا كان الشعر مصدرًا للاستدلال في علوم العربية والتفسير كما أسلفنا، استمر العلماء في الاستشهاد بالشعر، فأخذوا من الشعراء المخضرمين في صدر الإسلام، لكنهم اختلفوا في المتقدمين من الإسلاميين، فوصفوا بعضهم باللحن كالكميت، كما اختلفوا في شعراء الحواضر، وتساهلوا مع المحدثين من شعراء البوادي، وعدّ الأصمعي إبراهيم بن هرمة المتوفّى في الخمسين بعد المئة للهجرة، آخر الحُجج، كما قيل إن سيبويه لم يستشهد بشعر بشار بن برد الذي أدرك العصر الأموي، إلا اتقاء هجاءه.
http://www.alriyadh.com/2048836]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]