الجمال ببساطة هو تعريف صاحب السلطة الثقافية المسيطرة لنفسه وعرقه، والقبح تعريفه الآخر للأعراق المختلفة عنه، وبما يسوغ له مهاجمتها والسخرية منها، وربما تصفيتها بالكامل، أو أحياناً تسويق علامات وعمليات التجميـل التجارية..
مجلس الصحة الخليجي بدأ في 10 ديسمبر الجاري، حمــلة تـــوعوية لمكافحــــة اضطراب التشوه الجسدي، وهذا الاضطراب يجعل الشخص يكون صورة ذهنية غير دقيقة عن مظهرة، والأصعب أنه ينشغل بها ويعطيهــــا حيــزا كبيرا من تفكيــره، وقد تكون أسبابها بيولوجية، كاختلال التوازن الكيميائي في الدماغ، أو وجود تاريخ مرضي للاضطراب في العائلة أو أنها تحدث لأسباب نفسية، كتراجع تقدير الذات، أو نتيجة التعرض لصدمة أو مضايقات وتنمر وضغوط اجتماعية، وهذه الحـــالة المرضية ولدت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت أعداد المصابين بها قليلة ولا تتجاوز 1 %، وفي الأعوام القليلة الماضية ارتفعت النسبة عالمياً إلى 20 %، في الأشخاص ما بين 13 و55 عاماً.
في دراسة أجريت بجامعة تشامبن في ولاية كاليفورنيا الأميركية، وجد أن 65 % من النساء غير راضيات عن أشكالهن في مقابل 43 % من الرجال، وجاء رضا المرأة عن مظهرها متقدما على رضاها المالي والعاطفي، مقـــارنة بالرجــــل الذي يركز على الرضا المــــالي ويعطيه أولوية على الشكل الجيد أو الجميل، واللافت تأكيد أكثر من دراسة بأن الأشخاص أصحاب الجمال المطلق، أو المتفق عليه عند كل الناس، لا تزيد نسبتهم على 12 % على مستوى العالم، والبقية جمالهم نسبي، يتفاوت تقييمه من شخص لآخــر بحسب ذوقه، وربط الذكاء بالجمال أو بالخيرية الداخلية غير صحيح، فسقراط أعظم فلاسفة عصره كان قبيحاً وصاحب بطـــن منتفخة، ولم يكن شـــــريراً، وهنــاك سفاحون وقتلة كانوا أصحاب وجوه جميلة وأوروبية، وهذا يعني - في حده الأدنى - أن مقاييس الجمال التي استخدمها ليوناردو دافنتشي في رسمته الشهيرة (الرجل الفيتروفي) لا تقبل التعميم، وفيها مبالغات غير منطقية.
بخـــــلاف أن مفهوم الجمــــال ثقافي بالدرجة الأولى، ومن الأمثلة، اعتبار كارل ماركس أن الجمال في المــــــال، فقد وصف ماركس نفسه بالقبيح، ولكنــــه رغم قبحه يستطيـــع شراء أجمل النساء وأذكى العقول، والانحياز غير الأخلاقي تجاه القبح، حاول الروائيون تعديله في سردياتهم، ومن هؤلاء فكتور هوغو في رواية (أحدب نوتردام) الكائن القبيح الذي يسكن أبراج كنيسة نوتردام، وذلك بإظهار جماله الداخلي وروحه المتسامحة، وفي رايه، فإن كل ثقافة لديها نموذج واحد للجمال، وأكثر من ألف نموذج للقبح، والمعنى - في اعتقادي - أن احتمالات قبح الشخص تفوق احتمالات جماله، مهما حاول التحسين في مظهره الخارجي، ومعها العنصرية العلمية في أوروبا، واعتبارها العرق القوقازي الأبيض مرجعاً أساسياً لكل المجموعات العرقية، في مسألتي الجمال والذكاء، مع وضع الأعراق الأقل بياضاً في مرتبة متدنية، وهذه الفلسفة تم توظيفها لتبرير تجارة العبيد والاستعمار، وقد اعتمد عليها هتلر في إبادة اليهود والغجر والمعوقين.
كل هذا يقال ويحدث رغم أن أقدم تمثال مكتشف لـ(فينوس) آلهة الجمال عند الرومان، والذي يتجاوز عمره العشرين ألف عام، كان قبيحا في شكله، ويمثل امراة قصيرة وسمينة، إلا أنه عدل وجدد مع دخول القرن التاسع عشر الميلادي، ليكرس فكرة العرق القوقازي المتفرد في جماله، وحتى السيد المسيح عليه السلام تمت (قوقزته)، والأعجب أن الرشاقة كانت مطلبا لشيء لا علاقة له بالجمال، فقد حضرت مع الثورة الصناعية واليونيفورم الموحد لعمال المصانع، والسبب أن مقاساته الأصغر أرخص، لأنها لا تحتاج لكميات قماش كبيرة، ما أجبر العمال على الرشاقة كشرط رأسمالي توفيري.
المعادلات المربكة عن الجمال الأوروبي جعلت الناس في ولاية فلوريدا يتعاطفون مع الأميركي كاميرون هيرون في 2018، ويتجاهلــــون صدمه وقتــله لأم وابنتها الرضيعــــــة، أثناء سباق بينه وبين سيارة أخرى، ما يعني أنه قاتل ومستهتر، وقد حكم عليه بالحبس لمدة 24 عاماً، إلا أن ذلك لم يمنع قيام حملة واسعة على منصات السوشال ميديا تعترض على الحكم عليه، وارتفعت أعداد المسجلين في حسابه على تيك توك إلى مليوني متابع، والسبب أن شكـله كان جميــــلا بالمعايير الغربية، وهــــو تصرف غير معقول، فالاهتمام بمثل هذه الأشياء سيجعل الناس سطحيون ومنحازون في أحكامهم، تماما مثلما فعل الإعلام الأوروبي والأميركي، في كلامه المباشر عن أزمة الأوكرانيين النــــازحين، والقــــول إنهم يشبهون الأوروبيين، وليسوا لاجئين سود أو سوريين أو أفغان.
اضطراب التشوه الجسمي تجذر في المجتمعات الخليجية بفعل الأفكار الاستعمارية، وتعريفاتها الخاصة للقبح والجمال، وفق المعايير الغربية، وإلا فالشاعر امرؤ القيس تغزل بالشعر الأسود الفاحم، وكتب المتنبي غزلاً في المرأة البدوية ممتلئة الجسد، وكما قال فولتير: لو سألت ضفدع عن الجمال سيقول إنها تلك الضفدعة بعيونها وجلدها اللزج - وفي رأيي - الجمال ببساطة هو تعريف صاحب السلطة الثقافية المسيطرة لنفسه وعرقه، والقبح تعريفه الآخر للأعراق المختلفة عنه، وبما يسوغ له مهاجمتها والسخرية منها، وربما تصفيتها بالكامل، أو أحيانا تسويق علامات وعمـــليات التجميـــل التجارية عليها وبمليــــــارات الدولارات، والأنسب عدم الانشغال بالتوافه عن الأمور المهمة، إلا لضرورة صحية لا تحسينية.
http://www.alriyadh.com/2048956]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]