مواجهة البرد بمظاهره المختلفة، تبدأ بتوطين المملكة لصناعة المواد الفعالة للأدوية بالمشاركة مع الصين مصدرها الأول، كالبارسيتامول والمضادات الحيوية، والثانية يستهلك منها الناس ما يصل إلى نصف مليار جرعة يومياً، وساعدت في زيادة أعمارهم من 39 عاماً إلى 79 عاماً في 159 عاماً، وانخفضت بسببها معدلات وفيات الأمهات والأطفال 50 مرة في ستين عاماً..
منذ أسبوع انتقلت إلي عدوى فيروس يسمونه (راينو)، وهو في رأيي، من الأمراض المزعجة، وقد كان بمثابة تجربة جديدة ومختلفة علي، بالنظر إلى أعراضها ومضاعفاتها، ولعله يدخل ضمن أمراض الانفلونزا الموسمية، المتزامنة مع فترة الشتاء ما بين شهري ديسمبر ومارس، ولأني لم آخذ التطعيم السنوي فقد دفعت ثمناً باهظاً، وجعلني هذا استحضر ما قاله الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، من أن المرض يعطي للحياة معنى، وبحسب دراسة نشرت عام 2015، في مجلة (ذا لانسيت) البريطانية، ويمكن اعتبارها الأكبر في مجال علاقة درجات الحرارة بصحة الإنسان، أجري تقييم على 74 مليون حالة وفاة، وقعت من عام 1985 إلى عام 2012، في 13 دولة حول العالم، وتبين أن البرودة تفوقت على السخونة بنحو 20 ضعفاً في مسؤوليتها عن هذه الوفيات، لأن تأثيرها لا يتوقف عند القلب والدورة الدموية، وإنما يمتد إلى إحداث مشكلات في القنوات التنفسية، وإلى الإضرار بعمل الجهاز المناعي.
في شتاء 1746، انتشر بين البحارة الإنجليز مرض (الاسقربوط)، وكانت أعراضه تتراوح ما بين الإجهاد وآلام المفاصل والتورم والالتهابات، ونزيف في اللثة والأنف، بالإضافة لتساقط الأسنان والشعر، ووصلت إعداد من خسروا حياتهم متأثرين بهذا المرض، لحوالي مليوني بحار، خلال الفترة الممتدة من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وقد وجد طبيب الرحلة (جيمس ليند) أن تدهور أحوالهم الصحية جاء لأنهم لم يتناولوا ليمونا أو برتقالا في وجباتهم، وإحداهما كفيل بمعافاة المصابين من المرض، وبعد مئتي عام من هذه الحادثة، توصل المختصون إلى أن المرض الذي أصاب البحارة، سببه نقص في فيتامين (سي) المهم لسلامة الأنسجة المختلفة في جسم الإنسان.
ما سبق يبرر الاستخدام المفرط لفيتامين (سي) في الوقت الحالي، فقد تحول إلى سيد لكل الفيتامينات، وأصبح يستخدم كحل سحري لمعظم الأمراض، أو من باب تقوية المناعة، أو باعتباره مكملا غذائيا، وفي 1937، منحت جائزتي نوبل في الطب والكيمياء، لأشخاص كانت أعمالهم بالكامل على فيتامين (سي) منفرداً، ويعتبر الفيتامين العجيب من مضادات الأكسدة، لأنه يشل المواد الضارة، ويمنعها من أحداث تلف في أجسام الناس، بحانب أهميته في صنع الكولاجين الضروري لترابط الأنسجة الضامة، ومن أمثلتها، أنسجة العظام والأسنان واللثة والأوعية الدموية وأربطة العضلات، والغريب أن جسم الإنسان فيه جين مسؤول عن إنتاج هذا الفيتامين، ولكنه معطل وبلا وظيفة، نتيجة لطفرة معينة أوقفت مهامه، والمفارقة الأكثر إيلاماً، أنه موجود في الجينيوم الخاص بكائنات كثيرة، ويعمل لديها بكفاءة، كالطيور والاسماك والبرمائيات والزواحف ومعظم الثدييات.
الأصعب أن درجات الحرارة الباردة جداً، تؤثر في الإنتاج الثقافي للمجتمع بأكمله، ومن الشواهد، مرحلة البرد الاستثنائية التي عاشها العالم في 1816، فالثابت أنه العام الوحيد في التاريخ الإنساني المعروف، الذي لم يشهد فصلا للصيف، وغابت عنه الشمس تماماً، وفي هذه الفترة ظهرت أعمال أدبية تدور حول (بروميثيوس)، كقصيدة حملت المفردة ذاتها لـ(غوته)، ومعها موسيقى مخلوقات بروميثيوس لـ(بيتهوفن)، والاسم السابق يشير لمكتشف النار في الأساطير اليونانية القديمة، وهذا العام كان شاهدا على كتابة ماري شيلي لروايتها (فرانكشتاين)، في أعقاب ليلة لم تتمكن فيها من مغادرة منزل أصدقائها، لأن البرد كان مؤذيا، ما دفعها ودفعهم إلى الدخول في لعبة سرد لأكثر الحكايات المخيفة في أذهانهم، فكانت المحصلة رواية شيلي الأشهر.
علاوة على السابق، لعبت الأجواء الباردة دورا في الانتصار على جيوش الخصوم، بدون مجهودات تذكر، والنموذج الأبرز تقدمه روسيا، وذلك مع السويد وهزيمتها الشتوية في 1707، ومع نابليون الذي هاجم روسيا في شتاء 1812، بما يصل إلى ست مئة ألف جندي، ولم ينجُ من هؤلاء إلا مئة الف، وفي معركة (بارباروسا) النازية ضد روسيا، في الحرب العالمية الثانية، والتي سجلت فشلا كابوسيا وهزيمة مدوية للالمان بفعل البرد، رغم أن الجيش الألماني كان يضم ثلاثة ملايين ونصف المليون جندي، وأكثر من ستة آلاف دبابة ومدرعة، وقرابة سبعة عشر ألف مدفع هاون، والآلاف من قطع المدفعية والطيران، ما يعني ان التاريخ الجيوسياسي لروسيا مملوء بالهزائم المثلجة لصالحها.
قبل 446 مليون عام بدأ عصر جليدي استمر لمئتي ألف عام، وغير في الخريطة البيولوجية والجغرافية لكوكب الأرض، وبفعله انقرضت 85% من الكائنات البحرية في العالم، وزادت مساحة اليابسة وتسيدت البرمائيات ومن ثم الثدييات الكوكب الأزرق، ومواجهة البرد بمظاهره المختلفة، تبدأ بتوطين المملكة لصناعة المواد الفعالة للأدوية بالمشاركة مع الصين مصدرها الأول، كالبارسيتامول والمضادات الحيوية، والثانية يستهلك منها الناس ما يصل إلى نصف مليار جرعة يوميا، وساعدت في زيادة أعمارهم من 39 عاماً إلى 79 عاماً في 159 عاماً، وانخفضت بسببها معدلات وفيات الأمهات والأطفال 50 مرة في ستين عاماً.




http://www.alriyadh.com/2049736]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]