ها هو موسم التوقعات يطل علينا برأسه من جديد، ففي مثل هذا التوقيت من العام الماضي، كانت شاشات الفضائيات والصحف تزخر بكم هائل من الحوارات حول التوقعات الاقتصادية بشأن موضوعات على رأسها الركود، والتضخم، والبطالة، وأسعار الفائدة، وأسعار النفط، والأسهم، والسندات، والذهب، والعملات المشفرة، والواقع، أننا لن نصدم كثيراً لو علمنا أن معظم هذه التوقعات كانت فاشلة بامتياز، فمن وجهة نظر اقتصادية بحته، نجح عام 2023 في النزول بمعدلات التضخم في معظم دول العالم، بالرغم من أن توقعات المحللين الذين تحدثوا نهاية عام 2022، كانت تصب في خانة استمرار التضخم لسنوات، ولعلها فرصة لرصد بعض أخطاء التوقعات، والمهم من وجهة نظري المتواضعة، هو ملمح الغرور الذي يتصف به بعض الاقتصاديين الذين يرفضون الاعتراف بالخطأ.
لكن، الأسوأ، هو أن التشبث بوجهة نظر اقتصادية، أثبتت الأيام عدم صحتها، يزيد من احتمالية إفساد فكرة التحليل، ويثير الجدل بشأن جدوى التوقعات الاقتصادية، وسأضرب مثلاً بالاقتصاد الأميركي، باعتباره الاقتصاد الأول عالمياً والأكثر متابعة وتأثيراً في الاقتصادات الأخرى، ففي شهر مارس الماضي، توقعت لجنة الاحتياطي الفيدرالي أن ينتهى عام 2023 بمعدل بطالة 4.5 %، مع معدل تضخم أساسي يعانق 3.6 %، وفي الأسبوع الماضي، توقعت نفس المجموعة أن تبلغ نسبة البطالة في نهاية العام 3.8 %، وأن يلامس التضخم الأساسي 3.2 %، إلا أن الأرقام تشير إلى واقع مختلف، وربما نكتشف عند الإعلان عن بيانات شهر نوفمبر، انخفاضاً في معدلات التضخم إلى حوالي 2 %، وهذا هو هدف الاحتياطي الفيدرالي على المدى الطويل.
وهذا يعني، أن تحقيق الهبوط الناعم، لم يكن أمراً مستحيلاً أبداً، ويثبت صحة رأى الاقتصاديين الذين ذهبوا إلى أن التضخم حالة مؤقتة، فما حدث في عام 2023، يؤكد فعلاً أن التضخم كان حالة مؤقتة وليست مستمرة، فقد نجحت الاقتصادات عموماً في حل مكامن الخلل في مرحلة ما بعد الوباء، مثل مشكلات سلاسل التوريدات، وعدم التوافق بين فرص التوظيف والعاطلين، ونعتقد أن المزاوجة بين ارتفاع معدلات التوظيف وانخفاض التضخم هو ما يجب أن نتوقعه تماماً في أي اقتصاد يتسم بتحسن سلاسل الإمدادات، وهذا أيضًا ما نراه عندما ننظر إلى الاقتصاد الكلي بالتفصيل، حيث تتراجع أسعار المنتجات في القطاعات الأسرع نموًا، ولكن الاقتصاديين المتشائمين بشأن التضخم، وأبرزهم على سبيل المثال، لاري سامرز، وزير الخزانة الأمريكي السابق، يرفضون الاعتراف بالخطأ، إذ ينسبون الفضل في خفض معدلات التضخم إلى سياسيات الاحتياطي الفيدرالي.
دعونا نناقش مع لاري سامرز، ومن معه، فكرة واحدة فقط، وهى أنه كان يرى ويمتلئ بفكرة أن الفيدرالي بحاجة إلى إطلاق أكبر موجة من البطالة وتسريح العمال حتى يسيطر على التضخم، وأكد في توقعاته أن الاقتصاد يجب أن يمر بفترة طويلة من ارتفاع البطالة حتى يتم احتواء التضخم، ويقدر سامرز نسبة إلغاء الوظائف لمدة عام بحوالي 10 %، وبعبارة أخرى، يريد هذا الخبير الاقتصادي زيادة أعداد العاطلين في الولايات المتحدة إلى 16 مليوناً، من نحو 6 ملايين عاطل فقط، وهذا يعني أن سامرز كان يطالب بشطب 10 ملايين وظيفة، بجرة قلم، ومن الواضح، أن طريقة المقايضة الصارخة التي صاغ بها الأرقام، تشير إلى أنه كان يتحدث عما يعرف باسم نسبة التضحية، وهي العلاقة بين البطالة والتضخم، وليس هناك أي دليل على نباهة وفعالية هذه الفكرة المتهورة، بل العكس تماماً، فالمنتجون والعمال، الذين يحددون الأسعار والأجور، لا يفعلون ذلك أبداً، حيث يبنون قراراتهم الوظيفية على ما يرونه من أبعاد اجتماعية، وما تتطلبه بيئة الأعمال.




http://www.alriyadh.com/2049897]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]