من فقه النعمة اعتراف القلب بها، وتعلق الذهن باستحضار كونها نعمة، ونعمة الإسلام أولى النعم المستحقة لهذا الاعتراف، فعلى المسلم أن يصطحب أن ما هُدِيَ إليه من التزام الأوامر والنواهي الشرعية ليس مجرد تكليف كُلِّف به، بل هو نعمةٌ عظيمةٌ، ومنحةٌ جليلةٌ..
النعمةُ اسمٌ لا تُحصى مسمياته، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا)؛ وذلك لأنها عبارةٌ عما حبا الله تعالى به عباده من أنواع اللطف الظاهر والخفي فضلاً منه وكرماً، والنعمُ متنوعةٌ ومتفاوتةٌ، ومنها العامة والخاصة، ومهما كانت فهي حقيقةٌ بأن يهتم بها الإنسان، وأن يتذكرها ويعرضها على قلبه باستمرارٍ حامداً من وهبها له، وأن يعترف بها بلسان الشاكر المتبرّئ من الحول والقوة تطبيقاً لقوله تعالى: (وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث)، وقد علَّم الله تعالى عباده التدابير التي ينبغي أن تُستقبل بها النعمة إذا أقبلت، وأن تُستدام بها إذا حصلت، وأن تُطلب بها إذا فُقدت، وبعضُ هذه التدبيرات أمورٌ شرعيةٌ أرشد الله تعالى إليها العباد كشكره على نعمته المفضي إلى زيادتها بوعد الله الصادق (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، ومن شُكْرِ النعمة استعمالها فيما يُرضي من امتنَّ بها، وغير ذلك مما شرعه لعباده من أسباب صيانة النعم، ومن التدبيرات ما ألهمه العباد وأباحه لهم مما جرت أعرافهم وعاداتهم بتعاطيه مع التشريعات المنظمة لأساليبه، فجديرٌ بالمسلم أن يهتمَّ بالنعمة تحصيلاً وحفظاً وشكراً، ولي مع فقه النعم وقفات:
الأولى: من فقه النعمة اعتراف القلب بها، وتعلق الذهن باستحضار كونها نعمة، ونعمة الإسلام أولى النعم المستحقة لهذا الاعتراف، فعلى المسلم أن يصطحب أن ما هُدِيَ إليه من التزام الأوامر والنواهي الشرعية ليس مجرد تكليف كُلِّف به، بل هو نعمةٌ عظيمةٌ، ومنحةٌ جليلةٌ، فيفرح من ذلك بكل ما وُفق إليه، ومن الإخلال بالنعم الأخرى الذهول التام عنها حتى لا تخطر بالبال، ومن يُبتلى بهذا الإهمال لا يُفكر فيما هو فيه من النعمة، فقد يكون مُـمتّعاً بكامل صحته وقوته، ويمكثُ أزماناً لا يخطر بباله أنه مُنعمٌ عليه بنعمةٍ يبذلُ المرضى الأموالَ الطائلة لنيلِ شيءٍ منها، ومن الإخلال بالنعمة والاستهانة بها أن يكون الإنسان مُنعماً عليه بالنعمة الحقيقية، فيتخطّاها نظرُهُ، ويرمقُ أشياء يظنها نعمةً، وواقعها أنه ابتلاءٌ ابتلي به من تلبَّس به، كما يصنعه من يفتتن بالأفكار الضالة والشعارات الزائفة، ويجهل أنها آفاتٌ تجرُّ إلى ويلاتٍ، ويستهين بما عليه من الأمن والعافية، فيكون قد جَهِلَ النعمة أو تجاهلها، وتاقت نفسه إلى المحنة، وهذا بمجرد اعتناقه يتجرد الإنسان من نعمة التفكير السليم، وإذا لم يُؤخذ على يديه تجرد من النعم الحسية المادية.
الثانية: نعم الله تعالى بيديه، و(يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) كما صحَّ به الحديث، فلا بدَّ لكل إنسانٍ أن يرى على عباد الله تعالى من أصناف النعم المادية والمعنوية ما شاء الله أن يراه، ومن الخطأ الفادح أن يجعل ذلك سبباً للحسد والغلِّ والحقد، فيحقد على أهل النعم، ويتمنى زوال ما أُنعم به عليهم، بل رؤية النعمة على الآخرين فرصةٌ للتفكير في سعة ملك الله تعالى وكرمه، ويُعينُ ذلك من اطمأنَّ قلبه إلى أن يعتقد أن هذا لم يكن ليتمَّ إلا بحول الله وقوته، فيتهيأ له من خضوع القلب والثقة بالله تعالى ما يجعله يدعو ربه بأن يعطيه مثل هذا، وهو موقنٌ بالإجابة، فيُفتحُ عليه بسبب ذلك، فمواطنُ مشاهدةِ النعمةِ مواطنُ للدعاء كما صنع زكريا عليه السلام لما رأى عند مريم من رزق الله تعالى ما رأى، (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)، كما أن تذكر جلائل النعم الخاصة مُحفِّزٌ على سؤال مُعطيها، ومن دعاء شيخ الإسلام ابن تيمية: (يا معلمَ إبراهيم علِّمني، ويا مُفَهِّمَ سليمانَ فهِّمْني)، كما أن رؤية المنعم عليه فرصة للاقتداء به وسلوك الطريق الذي سلكه لتحصيل النعمة، فهذا الذي يجعله الحسودُ مُنطلقاً للشر ما هو إلا مُنطلقٌ للخير.
الثالثة: من الجهل بفقه النعم الاسترخاء بعد حصولها، والغفلة عن أهمية تكميلها وتثميرها والبلوغ بها إلى أقصى ما يُمكنُ من المتانة والإتقان والتمام، ولا يليق القصور عن القمة بمن أمكنه التبريز في مجالٍ أُنعم عليه بمبادئه وقابلية الإبداع فيه، وتقصيرُ مَنْ هذا حالُهُ هو الـمُستهجنُ لا عجز الضعيف، وصدق من قال:
ولم أر في عيوبِ الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمامِ
ولا ينتهي الأمر ببلوغ النعمة درجات التمام، بل تبقى صيانتها وإبقاؤها من أهم المهمات، فإن انتقاضها بعد تشييدها أشدُّ وقعاً، وأسوأ من عدم حصولها، ومن أولى النعم بالمراعاة والصيانة النعمة المجتمعية، من اجتماع الكلمة والاستقرار واستتباب الأمن ووحدة الصف؛ وذلك لأن هذه النعمة عنوانٌ عريضٌ تندرج تحته سائر النعم، فعلى المسلم الإسهام فيها بكل ما أمكنه.




http://www.alriyadh.com/2054457]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]