تتخذ عبارة «الوعي بالذات» أشكالًا متعدّدة، ومعاني متوالدة قد تفضي في معناها العميق المتداول -أحيانًا- إلى الجهل بالذات!! إذ تتعدّد استنادًا إلى الحقل المعرفيّ أو الإنسانيّ الذي توظّف فيه هذه العبارة إلى حدّ باتت معه دارجة على الأفواه بما تحمله من سيولة معنوية، وبلاغة ظاهريّة، ودلالة رمزيّة حتّى وصلت إلى برامج تطوير الذات التي اختلط فيها الغثّ والسمين في كثير من المضامين، ومنها عبارة «الوعي بالذات».
من أكبر المشكلات الحقيقيّة التي تواجه مسألة «الوعي بالذات» على المستوى الفردي والممارسة الحياتيّة، بعيدًا عن الحقول المعرفيّة، هو تجاهل ما يُسمى بـ«المثلث المعرفيّ» المتمثّل بـ(أنا - الآن - هنا)، ويُقصد به باختصار: «أنا»، أي التركيز على المشاعر الخاصة للفرد، ونمط التفكير المتولد عنها، والحالات الشخصيّة، وردود الأفعال تجاهها، ويقصد بـ «الآن»، أي في هذه اللحظة، وبـ «هنا»، أي في هذا الفضاء المكانيّ الذي يعيش فيه المرء في اللحظة الحاليّة، وهذا التجاهل والانشغال هو تجاهل للذات وانشغال عنها، وعن اللحظة المعيشة، إلى لحظة أحداث مضت ولن تعود، أو إلى مستقبل غير مؤكّد الوصول إليه، إنّه تفريط في هذه اللحظة الزمكانيّة الحقيقية (الآن - هنا) التي ستغدو ماضيًّا بعد أن كانت مستقبلًا في يوم مضى ليس ببعيد، وفي النتيجة تضييع لأساس الذات الوجوديّ المتمثل بـ(أنا)، بيد أن هذا الشعور ونمط التفكير (أنا - الآن - هنا) لا يعني بحال من الأحوال أن يضرب المرء صفحًا عن التفكير في الماضي والمستقبل، وأن يعيش اللحظة معلّقًا من دون ماضٍ منظور، ولا مستقبل مأمول، فهذا لا يستقيم وجوديَّا ونفسيًّا مع حياة المرء، وإن تحقّق فسيكون محفوفًا بمخاطر لا يمكن التنبّؤ بها؛ لذلك فالمعنى المشار إليه من هذا المثلث المعرفي هو أن تكون الذاتُ في خصوصيّة لحظتها الواقعيّة، وفضائها المعيش حاضرةً في التفكير سواء في ماضيها أو حاضرها، فلا تنقطع عن الحقيقة الملموسة الوحيدة في حياة الفرد، والمحدّدة لمستقبله ولطريقة فهمه لماضيه، أي المتحكّمة في مستقبله وماضيه على حدّ سواء.
إنّ الوعي بالذات إدراك لخصوصيّة الفضاء المعيش ولعمق اللحظة الحاليّة، ولمشاعر النفس الحقيقية، إنّه إحساس بما يقوم به الإنسان، واستشعار لجماله الذي قد يشتّته، ويضيعه ما لا ينتمي إليه، في ظلّ حالة دائمة الترحال والقلق.
إنّ من نتائج الوعي بالذات قيادة المرء نفسه، وإعادة تهجّي الكون وسماع أصواته من دون وصاية ذوقية، أو مرجعيّة خارجيّة، إنّه إعادة تشكيل للذات بعد أن تلقّت معارفها وأعرافها وأدركت ما ينسجم مع خصوصيتها، لا ما يفرض عليها ويعيق استقلاليتها؛ ليتحقق انتصار الذات والفوز بها بعيدًا عن الأنانيّة التي يخلطها بعضهم بالوعي الذاتي، فهما مختلفان، وربّما متناقضان في كثيرٍ من الأحيان.
من تتبع سير بعض الفلاسفة وعلماء النفس، يلاحظ عليهم بعد إنجازاتهم العلميّة، وترحالهم في ميادين تحليل الكون وموجوداته، والنفس البشريّة وبواطنها، أنّهم يدركون في نهاية الترحال المعرفيّ، وربّما الحياتيّ أن الوعي بالذات إنّما ينبع من الذاتيّة المتفردة لكلّ فرد، فمع وجود أمور مشتركة بين البشر، فإنّ كلّ فرد بمنزلة العالم المستقل، والنصّ الأصلي المتفرّد عن الآخر مهما حاول بعض العلماء طمس الفروق بينهم التي قد تكون في بعض الحالات جوهريّة.
أجاب الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو شارحيه في أحد اللقاءات في آخر مشاريعه العلميّة المهمة عن سؤال: وماذا ستفعل بعد؟... أي بعد هذا الإنجاز العلميّ، فقال: سأهتم بذاتي، إنّها العودة إلى الطفولة في إشراقها الفلسفيّ وقيادة الذات إلى نموذج إنسانيّ أكثر رقيًّا ونضجًا وجمالًا.




http://www.alriyadh.com/2054797]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]