إن حجم الإجرام الذي مارسته وتمارسه إسرائيل بدعم وتأييد كامل من الغرب - ماضياً وحاضراً - تجاه فلسطين والفلسطينيين يثبت بجلاء أننا أمام مجتمع غربي تغيب عنه العدالة والمساواة، وتنتهك فيه الحقوق والكرامات، في تناقض فاضح مع الشعارات العاطفية والسياسية..
عند إعلان انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م)، أعلنت أطراف المجتمع الدولي على مختلف مستوياتها رغبتها بوضع أسس وقيم ومبادئ تضمن للإنسانية العيش بسلام وأمن واستقرار، وتسعى للبناء والتنمية والتطور، وتساعد الشعوب المستعمَرة على تقرير مصيرها، وتؤسس لمرحلة جديدة تكون فيها حياة وكرامة الإنسان أصل أصيل في القانون الدولي وفي السياسة الدولية والعالمية. وتأكيداً لهذه الرغبة الدولية الجامعة والسَّامية بأهدافها البناءة والمتميزة بما تطرحه من رؤى جديدة لعالم جديد يخلو من الصراعات والحروب المدمرة لكل شيء في الوجود، تبنت المجموعة الدولية تأسيس هيئة عالمية تحت مسمى "هيئة الأمم المتحدة" لتكون مظلة العمل الدولي الجماعي، والضامن لتحقيق العدالة الدولية بمعناها الشامل والمتكامل، والمؤكد على أهمية الحلول السلمية المعززة للأمن والسلم والاستقرار. وتصديقاً لتلك الرغبة الدولية الصادقة من قبل المجموعة الدولية، اعتمد المندوبون الرسميون للدول المؤسسة للأمم المتحدة، والتي يتجاوز عددها الخمسين دولة ميثاق تأسيس الهيئة الدولية الجديدة "هيئة الأمم المتحدة" في 1945م لتنشأ بذلك الاعتماد هيئة دولية بأعضائها وعالمية بتوجهاتها البناءة والهادفة لخير البشرية، وتماشياً مع هذه المبادئ والقيم الأخلاقية العليا التي دعمتها المجموعة الدولية، صادقت تلك الدول الموقعة على ميثاق تأسيس الهيئة الدولية الجديدة على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، تحت مظلة الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1948م بقرارها رقم (217 / أ) باعتباره - بحسب الموقع الرسمي للأمم المتحدة - "المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم، وهو يحدد وللمرة الأولى حقوق الإنسان الأساسية التي يتعين حمايتها عالميا." ومما جعل لهذا الميثاق أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أهمية كُبرى لدى المجموعة الدولية، ودفعها لاعتماده والتصديق عليه، هو إيمانها بالأهداف السامية والجليلة التي تضمنتها مواده بشكل عام، وتلك المؤكدة على العدالة والكرامة والحقوق الإنسانية بشكل خاص، ومنها: المادة 1- يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
المادة 2- لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر، وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته.
المادة 3- لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه.
المادة 4- لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة.
المادة 5- لكلِّ إنسان، في كلِّ مكان، الحقُّ بأن يُعترَف له بالشخصية القانونية.
المادة 6- الناسُ جميعًا سواءٌ أمام القانون، وهم يتساوون في حقِّ التمتُّع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حقِّ التمتُّع بالحماية من أيِّ تمييز ينتهك هذا الإعلانَ ومن أيِّ تحريض على مثل هذا التمييز".. نعم، إن قراءتنا لهذه المواد التي تضمنها الميثاق أو الاعلان العالمي لحقوق الإنسان تجعلنا نؤيد كل ما جاء فيها، وتدفعنا للمصادقة على ما صادقت عليه الدول تحت مظلة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1948م انطلاقاً من الأخلاقيات والمبادئ والقيم العامة التي تحافظ على كرامة وحقوق الإنسان بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو عرقه أو لونه أو لغته أو هويته بمعناها العام.
ولكن، ما الذي حدث بعد ذلك: هل تم العمل بتلك المواثيق الدولية؟ وهل طُبقت تلك الوعود والمعايير الأخلاقية والإنسانية التي تضمنها الميثاق؟ وهل أوفت المجموعة الدولية - خاصةً المُهيمنة منها على القرار الدولي - بما تعهدت به في سبيل إقامة أسس العدالة والمساواة بين البشر بدون تمييز؟
قد تكون هذه التساؤلات عامة بحيث تتطلب الكثير من البحث والوقت والجهد، وقد تكون هذه التساؤلات متشعبة بحيث تتطلب التصنيف والتقسيم قبل الحُكم عليها للحصول على إجابات أقرب للحقيقة منها للاجتهاد، إلا أنه يمكن الإجابة على هذه التساؤلات والحصول على إجابات أكثر دقة وقُرباً للواقع عندما نختبرها على حالة بعينها وخاصة الحالة الفلسطينية.. نعم، إن دراسة الحالة الفلسطينية تساعدنا كثيراً للحصول على إجابات دقيقة ومُباشرة لتلك التساؤلات العميقة في أهدافها وغاياتها. فإذا وضعنا هذه التساؤلات المتعددة مع بعضها البعض لنحصل على إجابات دقيقة وقريبة للواقع منها للاجتهاد عند دراستنا للحالة الفلسطينية، فإننا نجد في التاريخ الممتد لسبعة عقود سابقة إجابات دقيقة وعميقة وظاهرة وسهلة الاختبار والإثبات عن مدى التناقضات القائمة والحاصلة بين المواثيق والعهود والوعود الدولية، وكذلك ما تضمنه الميثاق أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبين واقع الحال الذي تعيشه الحالة الفلسطينية بأرضها وشعبها. إن هذا التناقض الدولي بين المعلن والواقع أثبتته الحالة الفلسطينية، مُنذُ السنوات الأولى لتأسيس الهيئة الدولية، "هيئة الأمم المتحدة"، وكذلك مُنذُ اللحظة الأولى التي صادقت فيها المجموعة الدولية على الميثاق أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك عندما قُسمت أرض فلسطين في نوفمبر 1947م إلى دولتين عربية ويهودية، وتبعها بعد عدة أشهر إعلان قيام دولة إسرائيل في مايو 1948م، بعد عمليات تهجير وترهيب وقتل وإبادة جماعية وتدمير للإنسان الفلسطيني والبلدات والقرى والأرياف الفلسطينية من قبل المليشيات الصهيونية المدعومة كلياً من المجتمعات الغربية. وإذا كانت تلك اللحظات الأولى مثلت بداية التناقضات بين المعلن والواقع، فإن الأحداث التي مرت بها الحالة الفلسطينية بعد ذلك تؤكد حجم تلك التناقضات والمفارقات بين المعلن وما تضمنه من شعارات عاطفية، والواقع وما يعبر عنه من مآسٍ وآلام ومعاناة. نعم، لقد مثلت بعد ذلك الأحداث المحورية التي مرت بها الحالة الفلسطينية عنواناً لحجم النفاق الذي تعيشه المجتمعات الغربية ومن ذلك مساندتهم وتأييدهم الكامل للاحتلال الإسرائيلي للقدس وأجزاء من الضفة الغربية في يونيو 1967م وما تبعه من تهجير وترهيب وقتل للفلسطينيين.
وإذا أردنا أن نضيف لتلك التناقضات مزيداً من الإثباتات، فإن كل عام من أعوام الحالة الفلسطينية يثبت حجم التناقضات، حيث الحديث عن أهمية العمل بمبادئ حقوق الإنسان وإصدار القرارات الدولية الداعمة للحقوق الفلسطينية، بينما تأييد الأعمال العسكرية الإسرائيلية، وتقديم الدعم المادي والمالي لبناء مزيد من المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة مستمر ويتصاعد عاماً بعد عام حتى أصبحت معظم الأراضي الفلسطينية مستوطنات إسرائيلية يعيق وجودها وتمددها إقامة دولة فلسطينية متصلة الأراضي. وإذا أردنا أن نؤكد على مزيد من حجم هذه التناقضات، فإن الأعوام التي شهدت انتفاضات فلسطينية مطالبة بالحقوق الفلسطينية ورافضة للاحتلال الإسرائيلي وممارساته البغيضة وغير الأخلاقية تؤكد على ذلك، حيث وصفت المجتمعات الغربية الانتفاضة الشعبية الفلسطينية - أو انتفاضة أطفال الحجارة - بأنها أعمال منافية للقانون، بينما آلة القتل والإجرام والتدمير والتخريب الإسرائيلية وصفت بأنها حق مشروع، أما إذا أتينا للحالة الفلسطينية خاصة منذ أحداث الـ 7 من أكتوبر 2023م، فإن عِظم حجم التناقضات والمفارقات والنفاق الغربي لا يمكن التعبير عنه بأية كلمات، ولا يمكن وصفه بأقبح الصفات، حيث الغياب التام للقيم والمبادئ والأخلاقيات هي العنوان الذي يمكن وصف المجتمعات الغربية به.
وفي الختام من الأهمية القول إن الحالة الفلسطينية - ماضياً وحاضراً - أثبتت أن ميزان العدالة الغربية يتميز بالانحياز للقوي الظالم، والتعصب للقريب وشريك المصلحة، والإهمال المُتعمد لقيم ومبادئ حقوق وكرامة الإنسان، والعنصرية الظاهرة بتأييدها ودعمها لآلة الإبادة والإجرام والقتل الإسرائيلية تجاه الأبرياء من الفلسطينيين. نعم، إن حجم الإجرام الذي مارسته وتمارسه إسرائيل، بدعم وتأييد كامل من الغرب - ماضياً وحاضراً - تجاه فلسطين والفلسطينيين يثبت بجلاء أننا أمام مجتمع غربي تغيب عنه العدالة والمساواة، وتنتهك فيه الحقوق والكرامات، في تناقض فاضح مع الشعارات العاطفية والسياسية التي ترفعها عند تسويقها لنفسها أمام الرأي العام العالمي.
http://www.alriyadh.com/2055531]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]