صناعة المبدع والمبتكر لن تنجح إلا بالجرأة وعدم التحرج من السؤال، ومعها عدم الاستخفاف بالأسئلة الغبية وغير المألوفة، لأن تحولات العالم الكبرى بدأت باستفهامات من هذا النوع، وجدت من يستقبلها ويعمل على تطويرها، وبعض العرب للأسف، يتوسد مقولة أبي حنيفة ومده لرجليه، ويستخدمها كمرجعية لتسفيه وقمع أفكار الآخرين..
وافق يوم أمس الأربعاء 24 يناير الجاري اليوم العالمي للتعليم، وتعتبر هذه المرة الخامسة التي يحتفل بها المجتمع الدولي بهذا اليوم، وقد أقرته الأمم المتحدة في 2018، لدوره الأساسي في بناء الدول وضمان استقرارها وتطورها، والتعليم في المملكة بدأ في 1924 وسيتم عامه المئة في نهاية العام، وساهمت رؤية المملكة في تحوله من أسلوب التلقين والحفظ الجامد إلى التفكير المهاري والإبداعي، ومن الشواهد، أنه في 2023 تم تغيير 40 ألف محتوى في المناهج التعليمية السعودية، واستحدثت مناهج جيدة في سلاسل الإمداد والذكاء الاصطناعي، ومعها المهارات الرقمية والأمن السيبراني والتفكير الناقد وغيرها، وعملت على المهارات الناعمة لبناء شخصية الطلبة وإشباع هوياتهم، عن طريق الفنون الأدائية كالمسرح والخطابة، وكلها أمور جيدة في جانبها التنظيري، بانتظار مخرجاتها على أرض الواقع، فالمسألة ليست سهلة وتحتاج لوقت بالتأكيد.
الأمور لا تقف عند هذا الحد، فقد أصبح التدريب التقني والمهني قائما في معظمه على نظام العقود، أو الدراسة المنتهية بالتوظيف لحساب الشركات، والسابق رفع من نسب القبول في الكليات التقنية، وكليات المجتمع جرى تحويلها إلى كليات تطبيقية تركز على وظائف المستقبل، بالإضافة إلى أن الجامعات ستكون عبارة عن مؤسسات تعليمية غير مرتبطة بوزارة التعليم إلا من ناحية الإشراف، وجامعة الملك سعود، في الوقت الحالي، مستقلة عن الوزارة، ولها مجلس إدارة، والمستهدف أن تكون من أفضل عشر جامعات عالمية في 2030، وستلحق بها جامعات كجامعة الملك عبدالعزيز، وتوجد هيئة حكومية للبحث والابتكار والتطوير، مهمتها تجسير الفجوة بين الجامعات والشركات، وتحديد مجالات الاستثمار في البحوث العلمية والمنح الدراسية والبرامج الجامعية، وبما يعزز التفكير الإبداعي والابتكاري عند الطلاب.
الأعجب والذي كان بمثابة المستحيل، في رأيي، هو مجلس شؤون الجامعات الذي يعمل بالتعاون مع وزارة الموارد البشرية، وذلك من خلال منصة استشرافية، تقيس الاحتياج المستقبلي لسوق العمل وتقارنه بمخرجات الجامعات، ومن ثم تعمل على تعليق أو خفض القبول في التخصصات صاحبة الطلب المحدود في السوق، وزيادة القبول في التخصصات المطلوبة، وبما يوفر وظيفة متاحة للخريج بعد تخرجه، والآلية الجديدة نفذت فعليا اعتبارا من عام 2022، ولمعرفة منافع التغير سنجد أنه ما بين عامي 2013 و2023 تراجعت معدلات البطالة من 12% إلى 8%، ومن الأمثلة على شراكات الوزارة الناجحة مع القطاع الخاص في مجال التعليم العام، قيام الأول بإنشاء 120 مدرسة نموذجية في مدينتي مكة وجدة، وبقدرة استيعابية تصل إلى 100 ألف طالب، وهذا جعل الوزارة تستغني عن 144 مدرسة مستأجرة في المدينتين.
بخلاف برنامج تنمية الموارد البشرية، واهتمامها بإنتاج مواطن ينافس الآخرين عالمياً، وفي هذه الأيام، يدرس الطلبة السعوديون المهارات الرقمية واللغات في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، وفي المرحلة الثانوية هناك ستة مسارات، تشمل علوم الفضاء والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والنظام القانوني وأنظمة المحاكم والمعلومات، وبما يجعل الطالب مهيأً لدخول سوق العمل، ولا يحتاج إلا إلى دبلوم قصير بعد تخرجه من الثانوية، وللمعلومية التعليم العام والجامعي سيخصص بنسبة كبيرة في الفترة المقبلة وسيسلم لشركات، وقد أسندت بالفعل مراحل الطفولة المبكرة ورياض الأطفال والتعليم الابتدائي، إلى شركات تعليمية ستقوم بتشغيلها تحت إشراف الوزارة، وأصبح التعيين من اختصاص إدارات التعليم في المناطق، وفق احتياجها، ولم يعد مركزيا في الوزارة، ابتداءً من هذا العام، وتم تقليص هذه الإدارات من 47 إلى 16 إدارة، في إطار الحوكمة المالية والإدارية.
وزارة التعليم تقدم خدماتها لسبعة ملايين وثمان مئة ألف طالب، في التعليم العام والجامعي، وقرابة 620 ألف معلم وعضو هيئة تدريس، وفي مسؤوليتها 31 ألف مدرسة حكومية وخاصة، و57 جامعة وكلية عامة وأهلية، وتشرف على 52 ألف مبتعث من الجنسين في الجامعات العالمية، ومجهوداتها كبيرة، ولكن صناعة المبدع والمبتكر لن تنجح إلا بالجرأة وعدم التحرج من السؤال، ومعها عدم الاستخفاف بالأسئلة الغبية وغير المألوفة، لأن تحولات العالم الكبرى بدأت باستفهامات من هذا النوع، وجدت من يستقبلها ويعمل على تطويرها، وبعض العرب للأسف، يتوسد مقولة أبي حنيفة ومده لرجليه، ويستخدمها كمرجعية لتسفيه وقمع أفكار الآخرين.
مع كل الاحترام والتقدير لإنجازات وزارة التعليم، لا بد من ملاحظة أن الحلول التي تنجح في مكان قد لا تقبل النجاح في غيره، ما لم تضع في حساباتها البيئة المحلية والظروف المحيطة، وحتى الفوارق بين المدن يفترض مراعاتها، فالمدينة الساحلية تختلف عن الجبلية والصحراوية، في أولوياتها الثقافية والدراسية والوظيفية، وفي طريقة تفكيرها في الحياة والناس، والمعنى أن تحويل التعليم إلى سلعة استهلاكية، كما في أميركا وأوروبا، لن ينجح دائما في المجتمعات العربية، وبالأخص إذا اهتم بالماديات وحدها، لأن العرب بما فيهم أهل الخليج حسيون وعاطفيون جداً، والاستثمار الحقيقي يكون بمخاطبة منظومة القيم لديهم.




http://www.alriyadh.com/2055762]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]